المسيحيون الأوائل وطريق الآلام

في الجزء الثالث من مقالة سفير جمهورية العراق لدى الفاتيكان حبيب محمد هادي الصدر الصادرة في جريدة “الصباح” يتم التطرق الى الكنيسة الأرمنية، حيث يقول: “بسبب تحول أباطرة الرومان وفي مقدمتهم (قسطنطين) الى الديانة المسيحية ورعايته لمجمع نيقية المسكوني المسيحي الأول عام (325 م) لغرض جمع كلمة المسيحيين وتوحيد إيمانهم وتنقيته من الإختلافات و الشوائب فضلا عن نقله مركز ملكه من (روما) الى (بيزنطة) عام (330 م). كل ذلك قد قلب مجرى الصراع التاريخي بين (الفرس) و (الرومان)، من صراع سياسي ستراتيجي الى  صراع سياسي وعقائدي ديني على اعتبار أن الملك الساساني (شابور الثاني) غدا راعيا للزرادشتية فيما أصبح الإمبراطور (قسطنطين) راعيا للمسيحية وهو الأمر الذي حدا بالأول بعقد مجمع زرادشتي ضم كبار علماء المجوس ردا على رعاية الثاني لمجمع (نيقية المسكوني المسيحي) ولم يخف (شابور الثاني) خشيته من  تعاطف رعاياه المسيحيين مع أعدائه الرومان على خلفية الدين الواحد خاصة في ظل أجواء الصراع العسكري والسياسي المتأزم بين الدولتين. وفشله في إستخلاص (نصيبين) من أيدي غريمه (قسطنطين) عام (338 م) لذا فقد أقدم خلال الفترة من (340 ولغاية 379 م) بحملة إضطهادات  تعسفية منظمة ضد المكون المسيحي ذهب ضحيتها عشرات الآلاف من المسيحيين الأبرياء وهو ما سمي بــ (الإضطهاد الساساني الأربعيني) إذ أصدر عام (340 م) أوامره بهدم الكنائس والأديرة وإستدعى الى  (كرخ ليدان) في (الأهواز) الجاثليق العراقي (مار شمعون برصباعي) وخمسة من الأساقفة العراقيين و (97) بين قس وشماس وأمرهم بالسجود للشمس والنار وعندما رفضوا ألقاهم في غياهب السجون ثم ضرب أعناقهم واحدا تلو الآخر. وقد أيدت هذه الإضطهادات المريعة المكونات المجوسية والمانوية واليهودية في الدولة الساسانية.

ويقدر المؤرخون عدد من أعدمهم (شابور الثاني) من المسيحيين بــ (160) ألف شهيد. وبموت (شابور الثاني) عام (379 م) تنفس مسيحيو العراق وفارس الصعداء وطفقوا ينشرون ديانتهم في شمال العراق وبلاد أرمينية مستغلين إنشغال الملوك الساسانيين فيما بينهم بالتنافس على النفود والسلطة عقب موت (شابور الثاني)، فيما إعتنق ملوك دولتي المناذرة في العراق والغساسنة في الشام الديانة المسيحية ، فضلا عن الكثير من القبائل العربية وإنشاء أكثر من (37) ديرا على طول الطريق الرابط بين (الحيرة) عاصمة المناذرة وبين (بلاد الشام والجزيرة العربية).

ويعد الملك الساساني (كسرى أنو شروان) الذي حكم للفترة من (531 ولغاية 579 م)  من أعظم الملوك الساسانيين المصلحين إذ قام بتجديد مباني العاصمة (طيسفون) ونظم الجيش وفتح (أنطاكية) وإنتزعها من (الرومان) ونشط حركة ترجمة الكتب العلمية من اليونانية والهندية الى الفارسية، فضلا عن السريانية التي كانت لغة الثقافة آنذاك حيث شمر مسيحيو العراق الكلدو أشوريون عن سواعدهم في مضمار الترجمة وكانوا مادتها الأساسية وفي زمنه ولد نبينا المصطفى “ص” عام (571م). إذ أرسل رسولا إلى خلفه (كسرى الثاني ابرويز) الذي حكم للفترة من (590 ــ 628 م) يدعوه فيه الى الإسلام ، فإستنكف عن قبول الدعوة حيث كان حينذاك يعيش ذروة إنتصاره على ملك بيزنطة (فوكاس) وإحتلاله الشامل للممالك البيزنطية وبضمنها (دمشق) عام (613 م)  بعد معركتي (حوران) و(البحر الميت) والإسكندرية عام (619م) ثم تطويقه العاصمة البيزنطية (القسطنطينية)  من الجانب الآسيوي فيما طوقها من الجانب الأوروبي حلفاؤه (الآفار والسلاف). فضلا عن زحف قائده  (شهرباراز) عام (614 م) لإقتحام (القدس) وحرقها وتدمير (كنيسة القيامة) والإستيلاء على (الصليب المقدس) وقتله ما يقرب من (57 ) ألف شهيد مسيحي بمؤازرة حلفائه اليهود. وهي أول مرة تسقط فيها (القدس) بأياد غير مسيحية مما شكل صدمة مروعة للمسيحيين إستحضروا فيها مجازر (شابور الثاني) وأضطهاده الأربعيني، وهنا نزلت الآية القرآنية : (غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون)، إذ إنقلب (هرقل) حاكم (قرطاجة) على قيصر الروم مستوليا على (القسطنطينية) عام (622 م) أي في العام الهجري الإسلامي الأول وتمكن من مهاجمة الساسانيين من الخلف فاتحا (أذربيجان) عام (624 م) ومحطما معبدها المجوسي إنتقاما لتخريب كنيسة القيامة ومتحالفا مع (الترك الخزر) وزارعا الشك بين (كسرى الثاني) وقائده (شهرباراز) ثم قيام إبن كسرى (شيرويه) بإغتيال والده وجلوسه على عرشه. فزحف (هرقل) الى (المدائن) عام (628 م) مما وجد (شيرويه) نفسه مرغما لقبول الصلح وبموجبه إسترد (هرقل) ما خسره (سلفه) من ممالك بيزنطية فتوجه عام (630 م) حافيا الى (القدس) معيدا إليها الصليب المقدس، وهناك التقى بــ (أبي سفيان) مستفسرا منه عن أحوال الدين الإسلامي الجديد. وبعدها خسر (هرقل) معركة (اليرموك) مع جيوش المسلمين وانفلتت من قبضته بلاد الشام ومصر وشمال أفريقيا لتدخل في حضيرة الإسلام، فيما استولى القائد العربي (سعد إبن أبي وقاص) على (طيسفون) عام (637 م) وتعقب المسلمون ملكها الساساني (يزدجرد الثالث) لينتصروا عليه في معركة (نهاوند) عام (642 م) والتي هرب منها حتى لقي حتفه على أيديهم عام (651 م) وبذا سقطت (الإمبراطورية الساسانية).
وقد ابدع مسيحيو العراق في تلك الفترة أدبا لاهوتيا وفلسفيا ثرا ورائعا خط بلغتهم الآرامية والسريانية. وقد نشطت المدارس السريانية في تعليم الفلك والطب والموسيقى والمنطق والنحو والشعر ، فضلا عن اللاهوت وباللغتين السريانية واليونانية وقد شارك الأساقفة الأوائل في المجامع المسكونية الأولى وإنخرطوا مع أساقفة غير عرب في جدالات لاهوتية معمقة لتحديد الكتب المقدسة التي يمكن إعتبارها غير منحولة وصالحة لإشتقاق العقيدة الأرثودكسية القويمة منها، فضلا عن صياغة تحديد وافي ومفصل لقانون الإيمان المسيحي الذي يقر به جميع المسيحيين تحت قبة مجمع كنسي مسكوني عام دعا إليه الإمبراطور (قسطنطين) ورعاه شخصيا بمدينة (نيقيا) التركية عام (325 م) وسار خلفه الإمبراطور (ثيودوسيوس) على خطاه إذ دعا الى مجمع مسكوني ثاني في (القسطنطينية) عام (381 م) لإنهاء الإختلاف بين الآباء حول بعض التفاصيل اللاهوتية المتعلقة بطبيعة السيد المسيح ، وتبعه مجمع مسكوني ثالث عام (431 م) في مدينة (أفسس) لتسوية الجدال أيضا. وقد أظهر أساقفة العراق الأوائل خلال مناقشات المجامع الثلاث غزارتهم العلمية وضلاعتهم الفلسفية.  حيث تمسك الأقباط في كنيسة الإسكندرية بإلوهية المسيح أي “الطبيعة الواحدة” وهذا ما ذهب إليه (اليعاقبة) في الشام ومنهم الغساسنة. فيما ذهب بطريرك القسطنطينية (نسطوريوس) الى ناسوتية المسيح أي الطبيعة الواحدة. وهو ما ذهب إليه (المناذرة) والأثوريون في العراق ومسيحيو فارس والهند. أما الإمبراطورية البيزنطية في زمن الإمبراطور (مرقيانوس) مدعوما من بابا روما (ليون الأول) (440 ــ 461 م) فقد تبنت نظرية (الطبيعتين الناسوتية واللاهوتية) للسيد المسيح عبر مجمع مسكوني رابع عقد في (خلقدونية) عام (451 م) ومارست ضد مخالفيها اليعاقبة والأقباط والنساطرة التضييق والقمع، ودخل مسيحيو العراق والشام ومصر المخالفون جولة جديدة من الإضطهادات ولكن هذه المرة بأيادي مسيحية على الرغم من أنهم كسبوا معركة الوجود الأولى مع الأكاسرة المجوس والأباطرة الوثنيين، كنفي (نسطوريوس) الذي كان من أصول عربية عراقية الى صحراء مصر الشرقية وموته فيها. ثم دعا الإمبراطور (يوستينيانوس الأول) عام (556 م) الى إنعقاد مجمع مسكوني خامس بمدينة القسطنطينية لتلطيف الأجواء دون نتيجة ملموسة مما أدى الى إعتماد الكنيسة القبطية المصرية اللغة القبطية محل اليونانية في طقوسها ثم حذا اليعاقبة والنساطرة في الشام والعراق حذوهم وإستبدلوا اليونانية بالسريانية مما أضفى على هذه الكنائس الصبغة القومية. وقد  حاول الإمبراطور (هرقل) (610 ــ 641 م) إيجاد حل وسط مع أتباع مذهب الطبيعة الواحدة لدوافع سياسية محضة على خلفية إجتياح الفرس الساسانيين لبلاده بمساعدة ضمنية من الأقباط واليعاقبة ردا على تضييقه عليهم الأمر الذي جعله يقدم تنازلات عقائدية عام (638 م) والتي أدانها آباء المجمع المسكوني القسطنطيني السادس عام (680 م) في وقت كانت فيه الكنائس القبطية واليعقوبية والأرمنية والمارونية والنسطورية قد تحررت من سطوة القسطنطينية وتمتعت بإستقلاليتها عندما خضعت مناطقها الى الحكم الإسلامي. ويؤكد المؤرخون أن أتباع هذه الكنائس قد إستقبلوا العرب المسلمين الفاتحين بالترحاب والمؤازرة تخلصا من ملاحقات وإضطهادات خصومهم البيزنطيين أتباع المذهب الآخر. ثم حدث نزاع مسيحي جديد تمحور هذه المرة حول الصلاة أمام (الإيقونات) أي الصور المقدسة إذ أصدر الإمبراطور (ليون الثالث) (717 ــ 741 م) قرارا بحظرها مما إستدعى إلتئام المجمع المسكوني السابع في (نيقية) عام (787 م) لنقض هذا القرار ولإقرار صحة إستخدام الإيقونات كجزء أساسي من عقيدة الأرثودوكسية المسيحية. وبسبب الإختلافات المسيحية حدث إفتراق عام (1045 م) بين الكنيسة الرومانية الكاثوليكية (أي الجامعة) في الغرب ومقرها (روما) وبين الكنيسة البيزنطية الأرثودوكسية أي قويمة الرأي ومقرها (القسطنطينية) في الشرق وتشمل كنائس: (أنطاكية والقدس والإسكندرية). إذ ملأت الأولى الفراغ الذي حدث بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية في الغرب عام (476 م) بفعل الغزوات الجرمانية المتكررة وإكتساب بابواتها السلطة القوية في بلاد الغرب دون منازع. فيما خضعت الثانية للأباطرة الذين كان لهم القول الفصل في تعيين البطاركة وإعتماد الأولى (اللغة اللاتينية) في الطقوس فيما إعتمدت الثانية (اليونانية) بالإضافة الى التنافسات المحمومة بين الكنيستين في قضايا أخرى أبرزها أن الأولى ترى أن (روح القدس) ينبثق من (الآب) و(الأبن) فيما يتمسك الأحبار البيزنطيون على انبثاقه من (الآب) فقط علاوة على قبول الثانية للرجال المتزوجين في سلك الكهنوت اليوناني ورفض الأولى لذلك. وواقع الحال أن المسيحيين الملكيين في بلاد مصر والشام هم فقط ظلوا موالين للكرسي البيزنطي سياسيا وكنسيا أما الأقباط واليعاقبة والنساطرة والموارنة في الشام ومصر والعراق فقد إستقلوا بأنفسهم مستفيدين من أجواء التسامح التي وفرتها لهم الدولة الإسلامية، ومدفوعين بإنتماءاتهم القومية العربية. كما تحول الكثير منهم الى الديانة الإسلامية. وعندما إشتعلت الحروب الصليبية بين الأفرنج المدعومين من كنيسة روما وبين العرب المسلمين في الشرق العربي للفترة من (1096 ــ 1291 م) عانى (المسيحيون الملكيون) إضطهادا على أيدي (الفرنجة) لكونهم اتباع الكنيسة البيزنطية المنافسة للبابا في روما فيما تجاوب مسيحيو الشام من غير الملكيين مع إغراءات كنيسة رومااللاتينية الكاثوليكية بسبب مشاعر عدائهم القديم تجاه (بيزنطة) ولعبت الكنيسة اللاتينية الأنطاكية التي تأسست بعد إنتهاء الحروب الصليبية دورا مهما في إجتذاب الطوائف الشرقية المسيحية الى حظيرة (روما).

وفي كنف الدولة العثمانية حدثت أزمة جديدة مردها أن السلاطين إعترفوا فقط بمرجعيتين مسيحيتين وهما (بطريرك القسطنطينية) و(جاثليق الأرمن) ونجم عن ذلك إستياء الملكيين لإفراط الأول باشغال اليونانيين للمناصب الكنسية على حساب الأكليروس الملكاني المحلي وإستياء اليعاقبة والنساطرة والموارنة كون الرئاسة الأرمنية تضاددهم في العرق واللغة رغم إلتقائها معهم في مذهب (الطبيعة الواحدة). الأمر الذي دفع هذه الطوائف للإندماج بالكرسي الرسولي البابوي في روما دون التخلي عن أنظمتهم وطقوسهم الكنسية التقليدية السريانية. مما أدى الى إنشطار الطوائف الشرقية الى فرع متحد مع بابا روما وفرع بقي على حاله القديم. وقد أفضى هذا الحال الى القضاء على الوحدة التاريخية بين صفوفها، الأمر الذي أوهن مواقفها حيال ما واجهته من تحديات، وجعلها عرضة للتجاذبات والمخاطر.

Share This