بوابة “التحرير المصرية” تتناول الوجود الأرمني في مصر

تحت عنوان “الأرمن جالية تقاوم الاحتضار” نشرت بوابة “التحرير المصرية” مقالاً قالت فيه انه مع أوائل 2015، “استوقفنا اقتراب الذكرى المئوية لمذبحة الأرمن على يد «الدولة العثمانية»، ولفت أنظارنا إلى الوجود الأرمني في مصر، خاصة أنه مرتبط في أغلبه بالمذبحة التي دفعت عشرات الآلاف منهم للنزوح من تركيا إلى دول أخرى، كانت مصر في صدارتها، حيث وجدوا فيها ملاذاً هادئاً، عاشوا فيه بأمان، وتعاملوا مع مكونات المجتمع المصري بسهولة وبساطة، وارتقى بعضهم منابر مهمة في السياسة والصحافة والفن، وباتوا نجوم مجتمع، من دون أن يشير أحد إليهم بصيغة تمييز، أو يلمح إلى كونهم وافدين، أو جالية أجنبية، بل وصل الأمر إلى تداخلهم في الواقع المصري كمفردات من المكون الاجتماعي، وامتلكوا قدرة عجيبة على  التميز رغم قلة الأعداد البارزة منهم”.

«الأرمن» في الحياة المصرية

كان بروزهم في مجال الفن لاحقا على تقدمهم في عالم السياسة، حيث تقلد بعضهم رئاسة النُظَّار (رئيس الوزراء)، ووزراة الخارجية، والتعليم، وفي مقدمتهم نوبار باشا، وبغوص بك سفيان، وديكران باشا دابرو، ويعقوب أرتين باشا، وغيرهم.

وفضَّل الأرمن مصر عن غيرها من البلدان، لتميز أهلها بسعة الصدر والأفق، وسماحتهم العِرقية، وسماحهم لهم ببناء دور للعبادة، وإقامة مدارس كانت تدرس كافة العلوم باللغة الأرمنية، فاحتفظوا باللغة والدين.

وأعداد الأرمن في مصر الآن لا تتجاوز 7 آلاف، بعدما كانوا 45 ألفًا في خمسينيات القرن الماضي، وقيل إن أعدادهم وصلت إلى 120 ألفاً عام 1915 بعد المذبحة التي تعرضوا لها على يد «الدولة العثمانية»؛ فرغم ما تتعرض له الجالية من انحسار، إلا أنهم حاولوا الاحتفاظ بشخصيتهم وهويتهم وتماسكهم، وكان ذلك مدعاة للاجتماع الدائم في المناسبات.

العجيب في الأمر أنهم يرفضون العودة إلى أرمينيا، حتى الحصول على جنسية بلدهم التي هُجِّروا منها على يد تركيا، وفي سبيل ذلك أنشئوا عشرة نوادٍ رياضية وثقافية وترفيهية بين القاهرة والإسكندرية، فضلاً عن صحيفتين يوميتين، وثالثة أسبوعية، تصدر كلها باللغة الأرمينية، إضافة إلى المدارس والجمعيات الخيرية.حتى مقابرهم وصل عمرها إلى 170 عامًا، ولكل هذه الأسباب يُفضل أغلبهم عدم العودة إلى أرمينيا وأن يدفنوا في مصر كما عاشوا فيها.

يقول الأسقف أشود مناتسكانيان، مطران طائفة الأرمن الأرثوذكس: إن الأرمن انصهروا داخل البوتقة المصرية لدرجة أنهم أصبحوا مصريين، لكنهم ما زالوا يحتفظون بهويتهم وشخصيتهم الأرمنية، فهي سر تميزهم، وهي معادلة مهمة في فهم أبعاد الشخصية الأرمنية.

والحقيقة أن المصريين استقبلوا الأرمن قديمًا بترحاب، وسهلوا لهم بناء دور العبادة، وهذا جزء من طبيعة المصريين في استيعاب أي وافد عليهم، وهو دليلٌ على تسامحهم، وهذا يحدث تقاربا شديدا بين الشخصيتين، لذلك كان تقاربهما سهلا وسريعا.

وكثير من الأرمن يعملون ببيع المجوهرات وصناعتها، وجزء منهم يعمل في الطب، وبعضهم يديرون شركاتهم الخاصة، باعتبار مصر وطنا لهم وليس مجرد مكان يقضون فيه جزءا من حياتهم.

يقول أنتراتيك فارجيبدان (89 عامًا): إنه ولد في مصر، وسيموت في القاهرة التي نشأ بين أحضانها، مفضلاً استكمال رحلته فيها بعد أن هُجر جده الكبير من أرمينيا على خلفية «المذبحة التركية» أوائل القرن العشرين.

ويؤكد أن الأرمن يعشقون حياتهم الخاصة ويحافظون عليها، لذلك لا يتزوجون إلا من بعضهم، ويندر جدًا أن يتزوج أحدهم من مصرية، وإن كان هذا قد حدث، وأغلبهم يعمل في مهن بيع الذهب والفضة، والتصوير، والنحت، والرسم، ويمتازون بالإبداع والأصالة والرقي في التعامل، فهم ناجحون إلى حد كبير في حرفهم.

وبالرغم من أن عدد الجالية يتقلص، إلا أنها ما زالت تحتفظ برونقها وبهائها والصلات التي ما زالت تجمع الأسر ببعضها البعض من خلال النوادي الترفيهية أو الرياضية، لأنهم يفضلون دخول أبنائهم المدارس الأرمينية من سن الحضانة إلى الثانوي. وتهتم الأسر الأرمينية بقوة العلاقات فيما بينها، وحضور المناسبات العامة، والخاصة مثل احتفالات الزواج، أو حالات الوفاة، وكذلك يتجمعون لحل مشاكلهم الخاصة، وما زالوا يتحدثون بلغتهم في منتدياتهم.

يقول المهندس عادل فريد: أعمل مع الأرمن في مصر منذ فترة طويلة، وأغلبهم يمتاز بحُسن الخلق التي تصل لدرجة السذاجة في كثير من الأحيان، وأكثر ما يميز شخصيتهم البساطة في كل شيء، حتى في المأكل والمشرب والملبس أيضًا، وأغلبهم يميلون للتفاؤل وعشق الحياة، ويهتمون بصحتهم البدنية والروحية أيضًا، كما يمتازون بالحرص على الأناقة.

وأكد أن الشخصية الأرمنية قريبة جدًا من الشخصية المصرية ولا اختلاف بينهما إلا في فوارق قليلة، تلاشت مع انصهار الأرمن في المجتمع المصري، حتى بات من الصعب تمييز الأرمني من ملامحه، فقد انطبعت الملامح المصرية على قسمات الوجه حتى على الطباع الداخلية، فلا يمكن إلا أن نصفهم بأنهم مصريون عن جدارة، وإن كانوا يواجهون فكرة احتضار الجالية، نتيجة تضاءل عددها، لكنهم ما زالوا متماسكين حتى هذه اللحظة، ويصرون على البقاء.

أرمنيون أثروا الحياة المصرية

من أهم الشخصيات الأرمنية التي أثرت الحياة المصرية، نوبار باشا، أول رئيس لوزراء مصر، وقد شغل المنصب ثلاث مرات من عام 1884 إلى عام 1895، وقام في عهد الخديوي عباس الأول بالمفاوضات مع بريطانيا لتنفيذ خطوط السكك الحديدية، ويرجع إليه الفضل في إنشاء الخط الحديدي الإسكندرية – السويس.

كما استطاع نوبار باشا أن ينتزع من العثمانيين فرمانات بمقتضاها تم تعديل نظام وراثة العرش، فأصبح في أكبر أبناء الوالي، كما استطاع أن يعقد اتفاقية تعطي إسماعيل حق عقد المعاهدات مع الدول الأجنبية، وحق عقد القروض وزيادة عدد الجيش والأسطول.

أما «بغوص بك سفيان»، وهو أسبق من نوبار في السلطة، فقد عيَّنه «محمد علي باشا» ناظرا لديوان التجارة والأمور الإفرنجية برتبة وزير، وهو من قام بتوقيع اتفاقية الإسكندرية عام 1840 نيابة عن «محمد علي باشا»، وكان يجيد ست لغات: العربية، والتركية، والإنجليزية، والفرنسية، والإيطالية، واليونانية، وعمل مترجمًا في القنصلية البريطانية في أزمير، قبل مجيئه إلى مصر.

وفي الصحافة برز منهم الفنان «صاروخان» رسام الكاريكاتير الشهير، وهو من رواد ومؤسسي هذا الفن المهم في الصحافة المصرية، وكانت فترة تعاونه مع الصحفي الكبير محمد التابعي سببا في بروزه كفنان موهوب، وذيوع صيته، وابتكاره لشخصيات ما زالت تنسب إليه، وكان أبرزها وأهمها شخصية «المصري أفندي»، الذي عبر عما يدور في الشارع المصري لأكثر من عقدين في المجلات المصرية الشهيرة، وأهمها «روزاليوسف».

الأرمن في السينما المصرية

ما زال المصريون يستمتعون بأفلام الطفلة فيروز التي قاسمت الفنان أنور وجدي أشهر أعماله السينمائية، والبعض ما يزال يذكر أغنيتهما المشتركة «معانا ريال .. معانا ريال»، وبعدها ظهرت الطفلة نيللي التي أصبحت فنانة الاستعراض والفوازير المعروفة، وأيضا الفنانة لبلبة التي ما زالت تشارك في أعمال سينمائية ودرامية مهمة، كان آخرها مسلسل «صاحب السعادة» التي تقاسمت بطولته مع الفنان عادل إمام في رمضان الفائت.

وسيظل للأرمن دور مشهود ومحبب في الوجدان والتاريخ المصري، كما سيظل وجودهم دليلا ناصعا على سماحة وأريحية المجتمع المصري.

Share This