نهاية الصمت والنسيان.. قوة التذكر الخلّاق في إحياء الذكرى المئوية لإبادة الأرمن



بقلم د. سعد سلوم

كنت في الاسبوع الماضي برفقة الوفد الارمني رفيع المستوى برئاسة المطران “آفاك اسادوريان” في زيارة آيات الله في النجف الاشرف، وقد خضنا نقاشا لاهوتيا وتاريخيا عن دلالات الابادة وموقف الشريعة الاسلامية منها في ذكراها المائة.

استضافنا في اليوم التالي (كرسي اليونسكو لحوار الاديان) في جامعة الكوفة، ووفر ذلك فرصة لا تعوض للحديث عن تحويل احياء الذكرى الى قوة للتذكر الخلاق، وقد حاولت في النقاش الذي اداره مدير كرسي اليونسكو الزميل “حسن ناظم” ان اطرح سؤالا جوهريا حول كيفية تحويل احياء ذكرى الابادة الأرمنية الى مناسبة لإطلاق مراجعة لطرق تفكيرنا وإصلاح مناهجنا التعليمية، ولإطلاق تحالف دولي جديد “تحالف الضحايا” في مواجهة المصالح الدولية المتنافسة لتقسيم بلادنا ونخب البزنس الإثنوطائفي من حولنا. تحالف من شأنه ان يحسّن رد فعلنا على الابادة المقبلة. ومن ثم نجعل لقيمة التذكر معنى يقع داخل السياق المحلي العراقي من جهة ويضع احياء ذكرى الابادة الأرمنية في إطارها الانساني المناسب، فنحن “نتذكر ونطالب” لكي لا يحدث هذا لشعوب اخرى، ولكي لا يحدث لنا في العراق مرة ثانية.

تحدث الإبادة الجماعية منذ أقدم التواريخ المسجلة، وغالبا ما كانت هناك ابادات تبرر على اساس ديني لكننا لا نجد لها صلة بما يحدث اليوم، اذ غالبا ما يصاب المسيحيون بصدمة لقراءة أن الرب إله إسرائيل، أمر بالتدمير الكامل (القضاء على جميع الرجال والنساء والأطفال) من جماعة عرقية تعرف باسم الكنعانيين.

في الواقع لا يحتاج الناس الى دوافع دينية لارتكاب الابادة، سواء تحدثنا عن ابادة الكنعانيين التي يصورها سفر يشوع، مرورا بالابادة الرومانية بقرطاج، وانتهاء بالتطهير العرقي وابادة السكان على يد مقاتلي داعش.

لكن بدءا من “ابادة الارمن” أصبحت عمليات الإبادة الجماعية أكثر اتساعا، أكثر انتظاما، وأكثر دقة، وهي تمثل تتويجا للعنف الواسع النطاق الذي ميز القرن العشرين. تكشف الإبادة الجماعية عن عمق الأزمة الثقافية التي تنخر عالمنا المعاصر، مثيرة مخاوفا عميقة عن عالم مرعب نعيش فيه يقع فيه المدنيون ضحايا لحسابات ضيقة تصنف فيه الشعوب الى مراتب.

لم يستثنِ هذا التصنيف شعبا من الشعوب على اسس قومية، دينية، مذهبية، فكرية الخ كما ان جميع انواع الانظمة ارتكبت جرائم الإبادة الجماعية : الاوروبيون منذ القرن الخامس عشر إلى التاسع عشر عملوا على إبادة السكان الأصليين في أستراليا وأميركا الشمالية، وفي العقد الأول من القرن العشرين قامت الدولة الالمانية بارتكاب الإبادة الجماعية للهيريرو في جنوب غرب أفريقيا، والقائمة تطول، المانيا النازية والاتحاد السوفيتي لا سيما عمليات التطهير العرقية والقومية التي بدأت في عهد ستالين، وكمبوديا تحت حكم الخمير الحمر، ويوغوسلافيا السابقة ورواندا ودارفور وانتهاء بإبادة الايزيديين في جبل سنجار شمال العراق.

لكن برغم الخصوصية التي تميز كل حالة ابادة، فإن هناك صفات مشتركة مهدت لممارسة الإبادة الجماعية، منها ان جميع هذه الحركات والانظمة المسؤولة عن الابادة كان لها تصور بيوريتاني عن الهوية، وسعت للدفاع عن فكرة هوية خالصة لشعب نقي او طبقة نقية او جماعة صافية، فكرة الشعب المختار التوراتية، الف عام من الرايخ يقودها الآريون مثلا، هوية تركية صافية، وبالمثل وباسم هوية عروبية خالصة تم ارتكاب ابادات في العراق، وفي مثل هذه الابادات ينفتح الباب على انضمام شركاء من اجل انجاز هذا الهدف، تواطأت النخب التقليدية في المانيا في ممارسات الرايخ الثالث وتحول كثير من الناس العاديين الى قتلة، وبالمثل نتحدث عن قصص مقارنة في تاريخ الابادات في القرن العشرين.

كذلك فعل السوفييت، من خلال اليوتوبيا التي قدموها عن مستقبل قائم على المساواة بين جميع الشعوب، وتم بناء على ذلك تجريد الناس من ملكياتهم، انتزعت المصانع والعقارات من أيدي الرأسماليين والأرستقراطيين، ودمر السوفييت قوة النخب القديمة ممهدين لتحول قسري في البنية الاجتماعية، ومن بعدهم تبنى الخمير الحمر الفكرة ذاتها للسياسات الشيوعية الصينية، وكانت يوتوبيا القوميين الصرب دولة صافية من أية عناصر “أجنبية دخلية” من اجل انشاء صربيا الكبرى التي يمكن في ظلها ان ينعم الشعب الصربي بالازدهار.

اشتركت هذه الحركات والأنظمة في تصميمها على إعادة تشكيل جذري للمجتمعات والدول وفي ظل مسعاها الشامل لتأسيس هوية جماعية قاتلة، فأعادوا تشكيل الوعي الفردي، وفي الطريق الى ذلك نفذوا تصفيات لعدد كبير من السكان وتطهير قطاعات كبيرة من الناس، وصنف الناس بناء على خلفية الطبقة الاجتماعية والتوجه السياسي، ولكن طالما انطوت الابادات على عمليات الترحيل القسري و قتل الناس بناء على تصنيف اثني يعتمد على العرق والأمة.

تصنيف يجعل الانسان الذي لا يتطابق مع هويتي الجماعية “آخر” بكل ما يثيره هذا المصطلح من خوف من المختلف وشيطنة له، وما يثيره من رغبة في تطهير يهدف الى “نقاء” يصبح فيه الاخر المختلف غير نظيف ونجس، لذا لا بد من حجره صحيا خوفا من تلوث النقاء الاسطوري المفترض، ومن ثم الانتقال بعد الحجر الى تطهيره او استئصاله.

وقد تضمن خطاب بيولوجيا الابادة قاموسا من مصطلحات لغة مشحونة بتنظيف المجتمع، والوقاية الاجتماعية والتطهير ضد المشتبه بهم وترحيل الجماعات العرقية والوطنية المشكوك بولائها او اتخاذ اجراءات اكثر قسوة ضد الطفيليات الاجتماعية او الحشرات او “الصراصير” كما كان يطلق في رواندا على الضحايا.

وبالمثل تستخدم اليوم في بلادنا مصطلحات تمييزية تحط من شأن الاخر وتشجع على ممارسة العنف ضده وتبررها، وتهيئ المناخ اللازم لارتكاب ابادات. واعتقد اننا يجب ان نتعلم من دروس الابادات السابقة عن النُذر المحتملة التي قد تؤدي إلى الإبادة الجماعية المقبلة، وان نتعلم من درس الصمت والنسيان.

فقد شهد القرن العشرين استهداف جماعات إثنية ودينية بالابادة الجماعية، وكان من شأن مرور “إبادة الارمن” دون إدانة ان يشكل عاملا محفزا لتكرار فظاعات أخرى في بقع مختلفة من العالم، فالنظام النازي ركن الى ثقة مفرطة بالنسيان الجماعي لكي يمارس ابادته ليهود اوربا خلال سنوات الحرب العالمية الثانية فيما يعرف لاحقا بالهولوكوست، فـ “من يتذكر مجزرة الارمن” على حد قول هتلر يوضح الجريمة الاخرى التي تعرض لها الارمن، جريمة الصمت من قبل الضمير العالمي والنسيان الجماعي وفقدان الذاكرة العمدي.

لكن بعد الهولوكوست اصبحت الحاجة إلى منع الإبادة الجماعية ومعاقبة مرتكبيها موضع اهتمام المجتمع الدولي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. الا ان هذا لم يمنع من حصول المجازر في كمبوديا في سبعينات القرن الماضي، قبل ان يستفيق العالم المعاصر على مجازر تسعينات القرن الماضي في رواندا بعد ان دفع مليون ضحية ثمن هذه الاستفاقة المتأخرة، تلاها ما حصل من فظاعات بين ظهراني الامم المتمدنة في اوروبا على طول البوسنة والهرسك وكوسوفو.

و بعد ان جاء القرن الحادي والعشرين بوعود وآمال كاذبة جديدة دشنت “دارفور” قصة اخرى في القارة السمراء المبتلاة بالحروب الاهلية وسيرورات العنف الدامي، وفي صيف العام 2014 الهادئ تعالى صراخ آخر من على سفوح جبل سنجار شمالي العراق في استهداف الايزيديين واقتلاعهم مع المسيحيين وبقية الاقليات من شبك وتركمان وكاكائيين من مواطنهم واراضيهم وذكرياتهم في الموصل وسهل نينوى.

قرن من الزمن مر على حدث مؤسس لفظاعة الابادة الجماعية وفشل تكرر لعقود في وقف ابادات أخرى، الا يحفزنا اليوم على ان نجعل من التذكر “قوة” تحول دون تكرار السيناريو لشعوب أخرى.

ارى ان قيمة التذكر وسط اعتراف دولي متزايد بواقعة الابادة سوف يشكل ردا على الفشل الجماعي في عدم منع حدوث ابادات جماعية، و ان نجعل منه محاولة للتعلم من الماضي.

وقد جمع المستشار الخاص المعني بمنع الإبادة الجماعية قائمة بعلامات الإنذار التي تشير إلى تعرض مجتمع من المجتمعات لخطر الإبادة الجماعية أو الفظائع المشابهة، منها:

– أن تكون للبلد حكومة شمولية أو قمعية لا تقبض على زمام السلطة فيها إلا جماعة مهيمنة.

– أن تكون جماعة أو أكثر من الجماعات الاثنية أو الدينية هدفاً للتمييز أو تستخدم كبش فداء لتحميلها مسؤولية الفقر أو غيره من المشاكل الاجتماعية التي تواجه البلد حالياً

– أن يوجد اعتقاد أو نظرية تقول بأن الجماعة المستهدفة أقل من مستوى البشر، فهي “تجرد من الإنسانية” أعضاء هذه الجماعة وتبرر ارتكاب العنف ضدهم. وتنشر الرسائل والدعاية التي تدعم هذا الاعتقاد من خلال وسائل الإعلام أو في التجمعات “تجمعات الكراهية” و”رسائل الكراهية”.

في رأي ممثل الحكومة الارمنية ، في نقاش في مجلس حقوق الانسان ، فإن إبادة الارمن قدمت مثالا لاولى عمليات الإبادة الجماعية في القرن العشرين والتي أودت بحياة نحو مليون نسمة، وما زالت الامة الارمنية ترزح تحت وطأة تبعاﺗﻬا البادية للعيان، وتعرضت قبل ردح طويل من الزمن للتمييز على جميع مستويات الحياة العامة، بما فيها الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، واضطر أفرادها إلى دفع إتاوات والعيش كمواطنين من الدرجة الثانية، وإلى إعادة توطينهم وعزلهم سياسيًا واجتماعيًا وثقافيًا كما اضطروا الى التعرض لغير ذلك من المصاعب الاستثنائية، بل حتى المذابح.

شكل ذلك خلفية تجربة ما تزال حاضرة في الذهن، فهذا الخطاب التذكيري يستحضر ذكرى الابادة ويعيد تقديمها كمثال تنبغي دراسته لتجنب تكراره في عالمنا المعاصر، إذ ان عمليات الاستهداف الجماعية غالبا ما يُخطط لها بإحكام، فقبل أن يشرع المحرضون على الإبادة الجماعية يشيعون التعصب والكراهية ليهيئوا بذلك البيئة المواتية للعنف؛ ويصنّفوا شرائح من السكان على أﻧﻬا من الإرهابيين والانفصاليين واﻟﻤﺠرمين والخونة .

ولا تزال هناك مؤسسات سياسية تستخدم هذه الممارسات حتى هذا اليوم على النحو التالي : تشمل الممارسات إلقاء الخطب التي تنم عن الكراهية، وإذلال فئة معينة من السكان في وسائل الإعلام، وتشويه سمعة الأفراد المنتمين إلى فئات محددة، وإنكار جرائم الإبادة الجماعية والفظائع المرتكبة في الماضي مشكلة بذلك الركن الآيديولوجي لسياسة التهميش التي تتبعها الدولة، وعادة ما يقترن ذلك بانتهاك الحقوق السياسية لفئة معينة (مثل انعدام حرية التعبير والصحافة والتجمع والتهميش السياسي ). وهكذا، فإن هذه النُذر، وإن لم تكن شاملة ، قد تشّكل مجموعة معينة من العلامات على المستوى السياسي.

وترى حكومة أرمينيا أيضًا، في إطار المنطق نفسه، أن مصادرة الممتلكات وتدميرها، واﻟﻤﺠاعات التي يصنعها الإنسان، والحرمان من الغذاء أو المرء أو الخدمات الطبية، مثلما بيّن ذلك المستشار الخاص، تشكل مجموعة من النُذر على الصعيدين الاجتماعي و الاقتصادي.

وبناء على ذلك، فإن تدمير الممتلكات الثقافية والمواقع الدينية وطمس معالم الهوية الثقافية أمور تندرج ضمن نطاق النُذر على المستوى الثقافي . ولكن هذه الانتهاكات بمجملها بحاجة لأن تكون منهجية الطابع ومتواترة من حيث الوقوع لكي تعتبر نُذرا على حدوث حالة إبادة جماعية.

اتأمل في هذه الصور والامثلة وأنا افكر بما يحصل في “العراق” من إبادة للتنوع الخلاق، فما تتعرض له جماعات دينية وقومية مختلفة الى عمليات تطهير واسعة وابادة جماعية على يد قتلة داعش، ما كان ليحصل على النحو الذي حصل فيه، لو تمت قراءة علامات الابادة بشكل مبكر وطور المجتمع الدولي آلية للتدخل الفوري لمنع الابادة، لا سيما وان مرور ساعة واحدة دون تدخل دولي عاجل لايقاف الابادة كفيل بالتضحية بأرواح الاف البشر.

ان ما حصل اليوم في العراق اليوم من سبي نساء الاقليات وتدمير تراثهم الديني وتشريدهم وقتلهم ومصادرة ممتلكاتهم واجبارهم على تغيير دينهم يعد جريمة إبادة جماعية وفقا للمادة الثانية من اتفاقية منع جريمة الابادة الجماعية والمعاقبة لعام 1948، فجميع الافعال التي تتعرض لها الاقليات في العراق تشكل عناصر لجريمة ابادة جماعية، فهي قد اتخذت بقصد التدمير الكلي أو الجزئي للاقليات وتضمنت جميع الافعال التي يتضمنها تعريف الابادة الجماعية

وهذا يدفعني للتفكير بأن الاستهداف الجماعي للتنوع الديني والقومي واللغوي والذي يجري منذ عقود في ظل صمت دولي مطبق ليس في جوهره سوى استمرار للفظائع وسياسة الابادة الجماعية التي عرفها العالم اول مرة في استهداف الأرمن، والتي تلتها استهدافات أخرى بسبب سياسة الصمت والانكار طول القرن العشرين وبدايات االقرن الحادي والعشرين.

لذا ولكي لا تتعرض ابادة الأرمن للنسيان، أو يستخدم الاعتراف أو الانكار لاغراض سياسية ولكي لا يتكرر سيناريو المأساة لشعوب أخرى، علينا ان نتذكر اليوم هذه الابادة بوصفها حدثا مؤسسا للفظاعة، وان نحول ذكراها الى رسالة للشعوب الاخرى للوقوف ضد الصمت والانكار وحالة الخدر العقلي والروحي التي تصيب عالمنا المعاصر.

المدى

Share This