الأوضاع الداخلية في إمارة أرمينيا… الأقاليم ..

arabic-emirates-in-pakradounian-armenia

الفصل السادس

 (1) الأقاليم

كانت الإمارات العربية في مملكة أرمينيا البقراتونية مؤلفة من المدن بشكل خاص لأن العرب وحكامهم آثروا على التمركز في المدن وكانت الأراضي التي يمتلكونها خارج أسوار المدن غير واسعة.

تزامنت إمارة دبيل مع مقاطعة Ostan بشكل تقريبي. ونعلم أيضاً أن هذه المقاطعة كانت قسماً من مملكة الأرشاقونيين وبقيت تحت هيمنة حاكم أرمينيا في فترة الحكم العربي. وفي حقبة انحدار الخلافة في القرن 10 ضم البقراتونيون مقاطعة آرارات و دبيل وOstan إلى أملاكهم في شيراك ـ أرشارونيك لكن بعد تشكل إمارة دبيل إنفصلت هذه المنطقة ثانية عن أملاك البقرادونيين الحقيقية.

يمكن معرفة حدود إمارة دبيل بعد التأكد من حدود الإمارات المجاورة. كانت أملاك الأمراء الأردزرونيين والسيونيين والبقراتونيين والبهلافونيين الأرمن تحيط بإمارة دبيل. ونعلم أيضاً أن نهر آراكس كان يشكل حدودها الطبيعية من جهة باسفرجان. لذلك عندما يروي المؤرخ توماس أردزروني عن الصراع، الذي نشب بين حاكم عربي مجهول الهوية في دبيل مع كاكيك أردزروني، يشير إلى أنهما التقيا قرب نهر آراكس على الجهة المقابلة من Khor Virab. عبر القائد العربي النهر لكنه اندحر في المعركة فأصبحت المدينة مهددة بعد عبور كاكيك هذا النهر.

تقع حدود إمارة دبيل قرب مقاطعة كوتايك لأننا نعلم أن قلعة كارني (كذلك يريفان) كانت من أملاك البقراتونيين.

تبدأ منطقة سيونيك الجبلية من الجهة الشرقية لمقاطعة Ostan لذلك فإن حدودها من هذه الناحية واضحة. وتحاذي إمارة Vayots-Dzor إمارة دبيل من هذه الجهة. ومن المفيد أيضاً أن نعلم حول الحدود التي كانت تفصل بين المقاطعات البقراتونية الحقيقية وهذه الإمارات الصغيرة. ويذكر المؤرخ الأرمني توماس عند إشارته إلى الصراع بين العرب والأرمن: “إمتدّ الاجتياح العربي ووصل حتى مقاطعة آرارات ومنطقة تسمى سفح أراكادزـ أراكاكوتن التي هي من أملاك عباس الأول بن سمبات”.

كانت هذه المنطقة تمتدّ حتى مقاطعة Ostan المجاورة بينما وصلت حدودها الجنوبية إلى منطقة تسمى “بوّابة الذئب”. وهكذا كانت الإمارة تتألف بشكل عام من المدن والقرى المجاورة ولم تتجاوز مساحتها حدود مقاطعة Ostan. وكانت قرية أرتاشات تقع ضمن حدودها حيث الصباغ الأحمر الطبيعي الذي يسميه العرب “القرمز” الذي لا يمكن الاستغناء عنه في الصناعات النسيجية في دبيل لدرجة أن العرب سمّوا القرية بـ “قرية القرمز”.

وكانت هناك قرية قرب دبيل تسمى Ovayk تقع على أطراف موقع Yuva الحالي وكانت  مشهورة جداً بصناعة الفخّاريات.

هذه القرية هي مكان ولادة الكاثوليكوس هوفهانّيس Ovayetsi 833-855م الذي كان إحدى الشخصيات المرموقة في القرن 9 م.

ذكر ابن خلليقان في القرن 13م: “توجد قرية قرب بلدة دبيل تسمى أجداناكان يتألف جميع سكانها من الأكراد حيث ولد أيوب والد صلاح الدين الأيوبي”. ويذكر هذا المؤرخ أيضاً في مكان آخر عند تحدثه عن عائلة الأيوبيين: “كان  جد صلاح الدين المدعو شادي أحد سكان مدينة دبيل العاصمة الأرمنية”.

من الصفات المميزة للجغرافيين العرب في القرن 13م عدم مقدرتهم على لفظ الأسماء المحلية بشكل صحيح. فبعضهم مثلاً يكتب Dabil والبعض الآخر Duwin بدلاً من Devin وكأنهم يتكلمون حول موقعين مختلفين. ويجب هنا مطابقة قلعة Tiknuni التي لم تكن بعيدة عن دبيل حيث ابتنى محمد بن الشداد قلعته مع تل حصلي الذي جاء ذكره لدى منجّم باشي.

كان فرعا نهر آراكس “آزاد” و”ميدزامور” يجريان حول دبيل. ولا يزال نهر آزاد يسيل في مجراه الأصلي حتى يومنا هذا بينما غيّر الفرع الثاني مجراه. واستناداً إلى أبي التاريخ الأرمني موفسيس خوريناتسي شُيِّدت مدينة أرتاشات قرب المكان الذي يصب نهر ميدزامور في نهر آراكس لكن يستحيل علينا الآن إيجاد هذا المكان بدقة بعد مضي هذه القرون الطويلة. ومن المحتمل أن جدول الماء الذي يسمى اليوم Sev Jour الذي يجري قرب مدينة إتشميادزين، مقر كاثوليكوس أرمينيا لعموم الأرمن في العالم، هو ما تبقى من ذلك النهر الذي غيّر مجراه على مر العصور.

ولا يمكننا سوى التخمين أن نهر ميدزامور، الذي كان لا يزال يجري في مجراه السابق في حقية البقراتونيين، هو ذاته “نهر الأكراد” الذي ذكره البلاذري لأنه، بناء على روايته، إحتل حبيب بن مسلمة مدينة أرتاشات (أزديساد كما تلفظها العرب-المترجم) أثناء اجتياحه لأرمينيا وبعد ذلك “عبر نهر الأكراد وعسكر في مرج دبيل”.

تمّ التنقيب في السنوات الأخيرة في مدينة دبيل وهوغارت وتوبراك قلعة وأيكستان وبزوفان ونوراشين وأرتاشات العليا وغيرها من قبل أثريي متحف أرمينيا التاريخي. تعكس الأوابد واللقى المكتشفة العديدة، التي تعود بقدمها إلى عصر البقراتونيين، ضوءاً ساطعاً على تاريخ مدينة دبيل.

يجب مطابقة القلعة مع القصر الذي ذكره الجغرافيون العرب. تمّ العثور على لقىً عديدة (سيراميك وغيرها) تحتل مركزاً استثنائياً في دراسة تلك الحقبة. شيدت القلعة ببلوكات الطين غير المشوي بينما كانت أبنية المدينة مبنية بالحجر. تمّ العثور أيضاً على مقر الكاثوليكوسية الكائن إلى جانب الكاتدرائية التي حولها العرب إلى مسجد في القرن 10م.

من الملاحظ أن الأوابد الأرمنية المسيحية، التي بنيت في وقت سابق بين القرنين 5-7م، صمدت أمام عوادي التاريخ والطبيعة أكثر من الأوابد التي وصلتنا من الحقبة الإسلامية لأن استخدام البنائين الأرمن لمادة الحجر له أهمية كبيرة في هذا الخصوص. مع ذلك نأمل بالعثور على أوابد جديدة تعود إلى الفترة العربية الإسلامية.

تُعَدّ معلوماتنا الحالية حول حدود الإمارات بعيدة جداً عن الحقيقة. ويجب علينا أن نذكر المدن التالية التي بحوزة العرب وكانت قسماً من مملكة البقراتونيين وهي : دبيل ونخجوان وقاليقلا وأرجيش وبيركري وأرجكة ومنازكرت. أما المدن الأرمنية–العربية المشتركة التي كانت تقع خارج المملكة الأرمنية فهي نبركرت وباغيش وسالماس وHer. وكانت جميع هذه المدن، التي كانت إمارات ذات حكم ذاتي أو قسماً من الإمارات، أملاكاً مدينية تخضع لها بعض المناطق المجاورة كما كانت الحال مثلاً مع إمارة دبيل.

كانت إمارة قاليقلا (كارين) على سبيل المثال تحتوي، إلى جانب ماستادون، على بعض القرى في أرمينيا الشمالية فقط. أما أونيك (هاونيك) كانت لها إمارة خاصة بها. ومع ذلك شكلت جميعها مع حفجيج منطقة واحدة. وكانت إمارة بيركري تتألف من مدينة بيركري فقط.

كان القيسيون (السُلَّميون) في وضع مماثل أيضاً. وعلى الرغم من امتداد حكمهم إلى مدن عديدة إلا أنهم آثروا على التمركز في المدن وعدم الاهتمام في امتلاك قطع واسعة من الأراضي في الأرياف. وصلت حدود إمارات هؤلاء حتى الشواطئ الجنوبية لبحيرةVan  وضموا إليهم بعد فترة أملاك الشيبانيين والحمدانيين أيضاً.

وكانت هذه الإمارة متاخمة لأراضي بقراتونيي تارون من الجهة الغربية والجنوبية ـ الغربية . ومناجم باجونايس (معدن باجونايس)، التي جاء ذكرها على بعض النقود العربية التي ضُرِبَت بأرمينيا في القرن 9 م، يجب التفتيش عنها في مقاطعة أباهونيك أو أبعد قليلاً في مقاطعة هارك أو قرب خلاط. وعلى كل حال كانت تقع في منطقة أصبحت قسماً من أملاك القيسيين لاحقاً.

يذكر الجغرافيون العرب في القرن 9 م قبر صفوان بن المعطّل السلّمي الذي كان من أقرباء الرسول  محمد. ويضع ابن خرداذيبة هذا القبر في مدينة أرساموساتا (سميساط) بينما يؤكد ابن الفقيه أن القبر كان في أرمينيا الرابعة أي في ذلك القسم من أرمينيا الذي تدخل فيه أباهونيك وهارك وأرمينيا العليا وسميساط وغيرها. وكان لهذا اللحد بدون ريب علاقة ما مع سلميي أباهونيك كمزار أو مكان مقدس.

اكتُشِفت أوابد قليلة العدد تعود إلى حقبة البقراتونيين. وبسبب الدمار الكامل لمدينة دبيل بقيت على الأقل بعض أنقاض أوابدها صامدة إلى حد ما بينما تحملت مدن عديدة مثل كارين وخلاط وخاصة منازكرت عوادي الزمن لعصور طويلة. لذلك من العبث البحث عن أوابد تعود إلى حقبة البقراتونيين لأن بيزنطة دمرت مدناً عديدة وخاصة قاليقلا ومنازكرت وأعادت بناءها في موقع آخر وبطراز هندسي مختلف.

لم تسترجع مدينة منازكرت أهميتها السابقة قط بعد القرن 10م لأنها كانت دريئة للهجمات البيزنطية المدمرة لذلك استمرت على الحياة بعدئذ كبلدة محصّنة صغيرة فقط. وكانت جالية أرمنية تسكن في الأحياء القديمة لهذه المدينة حتى القرن 19م.

يحوز الخان المهجور وخرائب كنيسة “السيدة العذراء”، التي تحتوي على 3 مذابح،  و”كنيسة سيرجيوس” على أهمية كبيرة. وكانت هناك كنيسة عربية Arap Kilise (من المحتمل كنيسة سريانية-نسطورية حوِّلت إلى مسجد في وقت لاحق) كذلك قلعة تتمركز فيها الحامية المحلية. ولا نعلم شيئاً حول تاريخ تشييد كنيسة العذراء الأرمنية لكننا  نجد أنها تمتاز بطابع العمارة الأرمنية القروسطية المتطورة جداً من خلال هندستها وفريسكاتها. لذلك لا يمكن التأكد من آثار منازكرت “الصامتة” وعما بقي من المدينة من عهد البقراتونيين إلا عن طريق مزيد من التنقيبات الأثرية المنهجية المنظمة.

نقدم هنا جدولاً بالمناطق التي تم احتلالها من قبل الإمارات في أرمينيا البقراتونية في القرن 10م: هيمن القيسيون على مقاطعة أغيوفيت (أرجيش) وخورخورونيك (أرجكه) وبجنونيك (خلاط) وأباهونيك (سرمانج). وأضيفت إلى هذه أملاك Uthmanids العرب وأربيروني (بيركري) وشكلت مقاطعة كارين (مدينتي كارين وماستادون) إلى جانب باسيان (باسين) وقسم من أباهونيك ( أوغيك ) ومرداغي (حفحيج ) وحدة إدارية مستقلة. وكانت مناطق وادي آراكس ومقاطعاتها، وتحديداً مقاطعة كوغتن ونخجوان وشارور و Urj و Ostan (دبيل) تحت هيمنة أمراء مختلفين.

*ينفرد موقع “أزتاك العربي للشؤون الأرمنية” بنشر كتاب “الإمارات العربية في أرمينيا البقرادونية” للمؤلف المستشرق الدكتور البروفيسور آرام تير-غيفونديان، (الطبعة الثانية المنقحة)، ترجمه عن الإنكليزية: الدكتور ألكسندر كشيشيان، عضو اتحاد الكتاب العرب، رئيس تحرير “كتاب العاديات السنوي للآثار”، صدر الكتاب عن مؤسسة المهندس فاروجان سلاطيان، حلب 2013، وسيتم نشر فصول الكتاب تباعاً (25).

 

Share This