الإبادة الأرمنية جريمة بحق الإنسانية

%d9%83%d8%aa%d8%a7%d8%a8-%d8%b4%d9%87%d8%a7%d8%af%d8%a7%d8%aa-%d8%ba%d8%b1%d8%a8%d9%8a%d8%a9-%d8%ba%d9%84%d8%a7%d9%81

بعد مجازر أضنة ونشوب أول حرب البلقان وحركات شعوبها التحررية – القومية في أعوام 1912-1914، ظهرت القضية الأرمنية وموضوع الإصلاحات من جديد في الدبلوماسية الدولية. فمن المعلوم أن الحركات التحررية لشعوب البلقان قضت على حكم الإمبراطورية العثمانية، وانهزمت قواتها في تلك المناطق وأدت إلى تحرير اليونان وبلغاريا وصربيا والحصول على الاستقلال. وبدأت هجرة الأتراك من منطقة البلقان إلى الأستانة. وتزامنت محنة الإمبراطورية العثمانية مع زيارة الشخصية الأرمنية بوغوص نوبار باشا إلى العواصم الأوروبية لمناقشة الإصلاحات الأوروبية بعد انتهاء حرب البلقان[1].

إن الواقع الجديد في الإمبراطورية وتغيير سياسة الحزب الحاكم على مبادئ عرقية وشوفينية وسياسة التتريك دفع الأرمن باللجوء إلى الدول الأوروبية من جديد لتطبيق الإصلاحات في الولايات الأرمنية. وقدمت روسيا في عام 1913 إلى الدول الأوروبية مشروع الإصلاحات في المناطق الأرمنية، والذي نُقش في اجتماع تلك البلدان في الأستانة. إن المشروع الذي كان يتضمن برنامج أيار نفسه عام 1895 مع اقتراحات البطريركية الأرمنية في الأستانة، كان يهدف إلى تشكيل منطقة إدارية تحتوي على الولايات الأرمنية الست (أرضروم، وان، بتليس، دياربكر، خربوط »معمورة العزيز« وسيباستيا)، برئاسة والٍ مسيحي لخمس سنوات من الجنسية العثمانية أو الأوروبية وبموافقة الدول الأوروبية[2]. وكان المشروع يحتوي عناصر أخرى بشأن بقية المؤسسات في إدارة الولاية كالقضاء والمجالس الإدارية وغيرها. وعقد مندوبو بريطانيا وفرنسا وألمانيا وروسيا وسويسرا اجتماعاً في باريس في 30 كانون الأول 1913 للنظر في إصلاحات الولايات الست التي يقطنها الأرمن[3].

كانت بريطانيا وفرنسا موافقتين بشكل عام على البرنامج الروسي، ولكن ألمانيا وبلدان التحالف الثلاثي رفضته بشكل حازم واقترحت مناقشة البرنامج التركي. وبعد صراع دبلوماسي قاسٍ تمكنت روسيا في 26 كانون الثاني في عام 1914 أن تفرض على إدارة الاتحاديين اتفاقية، التي نصت على تقسيم ولايات أرمينيا إلى منطقتين، وبموجبها كان يجب إدارتها من  مفتشين هما: النرويجي هوف والهولندي ويستينيك للإشراف على تنفيذ بنود الاتفاقية[4]. وبغض النظر ما كان البرنامج الجديد يلبي جميع مطالب الأرمن وحقوقهم بالحكم الذاتي، ولكن في آخر المطاف كان يخلق أرضية ملائمة لمستقبل المقاطعات الأرمنية. وبهذا الصدد يشير معاصر الأحداث مفلح سعد داغر بقوله: إن الإدارة العثمانية كانت منهمكة بالحرب البلقانية »فقبلت أن تعين لجنة خصوصية من 3 أعضاء مسلمين وعضوين أرمنيين وعضو كلداني برئاسة مستشار أجنبي لإصلاح الجندرمة وتسوية الخلاف بين الأهلين. وفي 8 شباط اتفق الباب العالي مع روسيا على إصلاح البلاد الأرمنية وجعلها منطقتين لكل منهما مفتش أجنبي يعينه الباب العالي بموافقة الدول العظمى. وقد قال أحد الساسة العثمانيين بعد الحرب الأوروبية: إن أطماع روسيا في الأناضول والبواغيز ستحملنا على خوض غمار الحرب في جانب أعدائها ضد حليفتينا القديمتين فرنسا وإنكلترا.

وهكذا كانت مسألة أرمينيا سبباً من أسباب الحرب الأوروبية العظمى التي تؤدي حتماً إلى حل المسألة الشرقية وكل فروعها حلاً نهائياً معقولاً على أساس العنصرية«[5].

            فكان من المحتمل تحقيق أهداف الأرمن وإنشاء دولة مستقلة استقلالاً ذاتياً ضمن إطار الإمبراطورية العثمانية، لكن اندلاع الحرب العالمية الأولى في آوائل آب 1914، أتاحت فرصة نادرة لسلطات الاتحاديين للتخلص من الإصلاحات ذاتها والشعب الأرمني بكامله، التي عمدت إلى إنهاء مهمة المفتشين الأوروبيين وإعادتهم إلى بلادهم، وكانا قد وصلا إلى مقر عملهما في الإمبراطورية، ثم بدأت في تنفيذ مخططاتها لإبادة وتهجير الأرمن[6].

خلال حرب البلقان قام الثلاثي محمد طلعت وإسماعيل أنور وأحمد جمال في 23 كانون الثاني عام 1913 بانقلاب عسكري، وسيطروا على الحكومة، وبادروا بممارسة الديكتاتورية وتخطيط مشروع، كما هو معلوم، على أساس توحيد الشعوب التركية وتوسيع حدود الإمبراطورية شرقاً عبر القوقاس وصولاً إلى آسيا الوسطى. وفي هذه المرحلة، خاصة بعد استقلال بلدان البلقان وهزيمة الإمبراطورية غير المسبوقة في الحرب وانقلاب 23 كانون الأول عام 1913، اهتمت الإدارة العثمانية بأمور الولايات الأرمنية. ومن أول مشاريع طلعت باشا كان إرسال حوالي 5000 من المهجرين الأتراك من البلقان كشرطة إلى المقاطعات الأرمنية، والذين لعبوا لاحقاً دوراً سلبياً للغاية في إبادة الأرمن. فهؤلاء الجنود المهجرين كانوا يبغضون المسيحيين بشكل خاص، ولذا أصبحوا من داعمي منفذي الجرائم بحق الأرمن بعد فترة وجيزة. ووفق خطة الثلاثي تم تعيين جميع الولاة من حزب »الاتحاد والترقي« بدلاً من تطبيق الإصلاحات. وقبل اندلاع الحرب وصل إلى الأستانة وفد عسكري ألماني بمهمة تدريب الجيش التركي. وتم بجهود الألمان لأول مرة في الإمبراطورية تشكيل فرق سرية في الشرطة، والتي قامت بجمع المعلومات عن شخصيات الأرمن وتحركاتهم وملاحقتهم، ولعبت هذه الإدارة السرية دوراً كبيراً في الإبادة الأرمنية، ويدل ذلك على أن العثمانيين عملياً بدؤوا بتحضيرات مخطط تفتيت الأرمن[7].

دخلت الإمبراطورية العثمانية في 31 تشرين الأول عام 1914 الحرب العالمية الأولى إلى جانب قوات محور ألمانيا، النمسا والمجر. فكانت السلطات العثمانية تأمل بطرد روسيا من القوقاس لتوحيد الشعوب التركية في الشرق الأوسط والقوقاس وروسيا وآسيا الوسطى في إطار دولة طورانية. فكانت العقبة في تحقيق هذا المشروع ليس روسيا فقط، بل أرمينيا التي كانت منقسمةً بين دولتين – القيصرية الروسية والإمبراطورية العثمانية. فكانت السياسة الداخلية والخارجية لكل منهما تختلف عن الأخرى جذرياً. فهذا الاختلاف كان ينعكس على تصرفات هاتين الدولتين تجاه الشعب الأرمني. واستغلت الحكومة العثمانية هذا الوضع لتنفيذ مشاريعها المعدة مسبقاً لتنفيذ عمليات الإبادة عن طريق إيجاد المبررات الكافية لمواقفها المتطرفة القادمة[8].

إن الحرب أصبحت الفرصة الذهبية لحزب»الاتحاد والترقي «الحاكم لتنفيذ مشروع »حل القضية الأرمنية« وإجهاض تطبيق الإصلاحات في الولايات الأرمنية نهائياً. إن مواقف الأتراك الشباب أيضاً كانت ثابتة بشأن الإصلاحات، وكانوا يحاولون بكل السبل عدم تنفيذها. فكانوا يعتبرون الولايات الشرقية قلب الإمبراطورية، ويدركون أن خطر الإصلاحات يهدد أمن واستقرار الدولة العثمانية. فكان التدخل الأوروبي في الشأن الأرمني يثير الغضب في أوساط الأتراك الشباب أيضاً ويشهد على ذلك الحديث الودي، الذي جرى بين جمال باشا وصديقه فاردكيس عضو المجلس التركي من حزب الطاشناق حيث يقول جمال: »يا فاردكيس، انتبهوا، تخلوا عن الأوروبيين. تعالوا لنقوم نحن بالإصلاحات. لانسمح أبداً تدخل الدول الأوروبية، وإذا فُرض علينا ثاني الإصلاحات في الولايات الأرمنية، وإذا قبلتم، وما أخذتم بعين الاعتبار الخطر الكبير، فأنا أؤكد لك أنه سيُقتل في الولايات الشرقية الست عدداً لا يقل عن 300 ألف أرمني[9]«.

هذا يعني أن الأتراك الشباب أيضاً تبنوا مواقف السلطان عبد الحميد نفسها بشأن القضية الأرمنية بعد أحداث البلقان واعتبروا، كما قيل، تنفيذ الإصلاحات في الولايات الأرمنية انهياراً نهائياً للإمبراطورية العثمانية.

حسب المعطيات المتوافرة، خاصة محاضر اجتماعات الاتحاديين ومذكرات رجال الدولة وكبار الموظفين،  فالتحضيرات عملياً بدأت في 2 آب عام 1914 بعد قرار الإدارة العثمانية بشأن تجنيد الذكور الأرمن إجبارياً البالغ عمرهم من 20 إلى 45 سنة. وبهذه المناسبة صدر في شباط عام 1915 قرار أنور باشا بشأن القضاء على الجنود الأرمن ومصادرة أسلحتهم وتشغيلهم أعمالاً شاقة وقتلهم بدم بارد. فكانت هذه الخطة، حسب تقييم الخبراء، من أهم خطوات الدولة العثمانية الهادفة إلى تفتيت الأرمن والتي سهلت تنفيذ الإبادة. بعد ذلك ظهرت النساء والأطفال والعجزة في فخ الموت من دون حماية واستعداد للمقاومة. وقتل أغلبية هؤلاء الفئات على طريق النفي، التي اضطرت المشي خلال أسابيع كاملة حيث تعرضوا لأبشع الفظائع[10].

في شهر تشرين الأول عام 1914 جرى برئاسة وزير الداخلية طلعت باشا اجتماع، تم خلاله تشكيل »لجنة التنفيذ الثلاثية« بعضوية قادة حزب »الاتحاد والترقي« ناظم باشا، بهاء الدين شاكر وشكري، وأعطيت لهذه اللجنة صلاحيات واسعة وأسلحة وأموال، وفُوضت للقيام بالتدابير اللازمة لتنفيذ ذلك المخطط الجهنمي، وتم تشكيل فرق سميت »فرق التشكيلات المخصوصة« أو »الفرق الخاصة«، إحدى ثمرات المشروع الإفنائي، والتي كان قوامها مجرمين محترفين أطلقوا من السجون[11]. وأرسلت هذه الفرق الإجرامية غالباً بقيادة الحزبيين الاتحاديين إلى مناطق الأرمن، بهدف القيام بأعمال الشغب وإشعال فتيل النزاع بين الأرمن والقوميات المجاورة[12]. كما أصدر طلعت باشا أوامر حاسمة وتعليمات خاصة بتهجير الأرمن. وأبلغت جمعية »الاتحاد والترقي« كل فروعها في الولايات وكل الحزبيين والمفتشين والمسؤولين عن تنفيذ تلك الأوامر، التي كانت تنص على فساد وقلاقل الأرمن وماقدموه من المساعدات للروس وقيامهم بإثارة الفوضى في شتى مناطق الإمبراطورية وإرباكهم حركات الجيش العثماني …إلخ.

وانطلاقاً من حرص الإدارة العثمانية على سلامة الدولة والدين، حسب الرواية التركية، قرر المسؤولون الأتراك تهجير الأرمن عنوة من جميع مقاطعاتهم حتى نهاية الحرب إلى خارج المناطق الساخنة من دون استثناء الرجال والنساء والأطفال، سواء من الشيوخ أم المرضى، وأن تحدد كل ولاية من ولاية حلب ولواء دير الزور مراكز مؤقتة يجري حشدهم فيها. وفي الوقت نفسه أعطيت تعليمات سرية إلى الجهات المعنية بشأن تفتيت الأرمن. وبهذه المناسبة صدر أمر طلعت باشا في 14 أيار عام 1915 والذي ينص على مايلي:

»بناءً على الضرورة التي قضت بالحفاظ على سلامة الجيش، وعلى سلامة الأمن والسكينة في المملكة، وعلى ما أبدت السلطات العسكرية والمدنية من إيجاب قطعي، نقرر إجلاء الأرمن من المناطق الحربية التي يقيمون فيها، إلى أماكن أخرى لا يكون الجيش فيها عرضة لحركاتهم المريبة. كما تقتضي الضرورة باتخاذ التدابير العاجلة الحاسمة لتنفيذ هذا القرار المبرم وفق الشروط المبينة ذيلاً. إن الدولة تدفع بالآلاف من أبنائها إلى ميادين الحرب يضحون بأرواحهم في سبيل الدفاع عن الوطن، والذود عن حياضه وصيانته من الاندثار، وتنتظر من رعاياها، لا فرق بين جنس ومذهب من أجناسهم ومذاهبهم، أن يكون ارتباطهم بها، في هذه الآونة العصيبة، أوثق مما هو في أي زمن آخر، لترى في اتخاذ قرار كهذا، بحث من يشعلون نار الفتن في الداخل ويعملون جاهدين على طعنها في الظهر من الخارج، أمراً طبيعياً ومشروعاً وفي الوقت نفسه ترى من حقها ألاّ تجيز إهمال تنفيذه. لذا فإنها تولي وضعه موضع التنفيذ أهمية خاصة.

وفيما عدا هذا التعميم نشر قانون من ثلاث مواد جاء فيه:

مادة – 1- يخول ويلزم قادة فرق الجيش ووكلاؤهم وقادة المواقع المستقلة، في زمن التعبئة العامة، بمقاومة وقمع كل حركة تخل بالأمن يقوم بها الأهالي، وكل مخالفة لأوامر الحكومة، وللإجراءات المتعلقة بالحفاظ على الأمن وعلى سلامة المملكة والدفاع عنها. كما يجوز لهم ويلزمون بأن يقمعوا بشدة وبقوة السلاح، وحتى بقتل ومحو كل من يقدم على مقاومتهم بقوة السلاح.

مادة – 2 – يكون على قادة فرق الجيش وقادة الوحدات الخاصة المستقلة، أن يهجروا أهالي المدن والقصبات منفردين أو مجتمعين، من أمكنة إقامتهم إلى أمكنة أخرى، إذا قضت الضرورات العسكرية، أو مقتضيات قمع التجسس والخيانة بذلك، أو إذا شعروا بالإقدام على ارتكاب تلك الأعمال.

مادة – 3 – يعتبر هذا القانون نافذاً من تاريخ نشره.

13 رجب 1333- 14 أيار 1915[13]

بعد تلقي الأوامر من الأستانة بدأ أعضاء الحزب الحاكم والمسؤولون في السلطات التركية بتنفيذها مباشرة. وباشر معظم هؤلاء المعنيين القيام بمهماتهم بكل جهد حسب الأوامر والتعليمات الصادرة من الأستانة التي اتخذت في شباط عام 1915 خلال اجتماع سري للجنة المركزية لحزب »الاتحاد والترقي« بمشاركة قادة الحزب طلعت باشا، وأنور باشا وبهاء الدين شاكر وناظم باشا وأحمد أوغلي. وتقرر نهائياً خلال هذه الجلسة السرية إفناء الأرمن بالكامل، حيث وصفهم طلعت باشا » بالثعابين «، وأضاف ناظم باشا قائلاً: »إن الأرمن أشبه بالقرحة التي يجب أن تستأصل بمبضع جراح ماهر، ولذلك يجب أن تكون عملية التطهير شاملة ونهائية، كما يجب ألا نترك أرمنياً واحداً على قيد الحياة في بلادنا، لا بل يجب أن نزيل الاسم الأرمني من الوجود«. أما الصدر الأعظم سعيد حليم باشا فقال: »إن أفضل حل للمسألة الأرمنية هو استئصال الأرمن وإزالتهم من الوجود[14]«.

إن أقوال قادة الحكومة الاتحادية هذه كانت دليلاً قاطعاً على القرار النهائي لإبادة أرمن الإمبراطورية، والذي بدأ عملياً من شهر آذار عام 1915، حيث تم بموجبه تدمير المراكز الأساسية للمقاومة الأرمنية في زيتون ووان. وفي الثامن من نيسان 1915 صدر مرسوم حكومي يتضمن خطة الإبادة وترتيباتها الزمنية، وحدد كيفية تنفيذ هذا المرسوم على الشكل التالي:

1- لغرض قطع رأس الجسد الأرمني قرر القبض على قادة الأرمن من سياسيين ومفكرين وأساتذة وأدباء وغيرهم في الأستانة.

2- نزع السلاح من جميع فئات الشعب الأرمني.

3- بدء عمليات القتل والنفي والترحيل قسرياً[15].

وفق جدول زمني تمت بموجبه عمليات إخلاء المقاطعات الأرمنية من سكانها بكل بربرية وهمجية. وتنفيذاً للقرار المذكور في 24 نيسان عام 1915 والأيام القليلة التي تلتها تم اعتقال حوالي 800 شخص في الأستانة من النخبة المثقفة للأرمن من سياسيين ورجال دين وكتاب وشعراء وفنانين ومحامين وصحفيين واقتصاديين وأساتذة جامعيين ومديري مدارس وغيرهم، ومن بينهم أعضاء المجلس العثماني. بعد الاعتقالات جرى نفي المفكرين الأرمن إلى أعماق الأناضول، حيث تم قتلهم بأقصى وحشية[16]. كما عمدت السلطات الاتحادية إلى قتل ضباط وجنود أرمن كانوا قد أدوا واجبهم بإخلاص على جبهات القوقاس.

وبالرغم من الرقابة الشديدة من الدولة الاتحادية التي فرضت عدم ذيوع أخبار تلك الأعمال الشنيعة والوحشية، فقد تسربت بكل تفاصيلها الإجرامية المروعة إلى أوروبا وأمريكا. فتناقلتها الصحف العالمية ووثقتها بالصور، ما أثار موجة من الضجيج والاستغاثة والشكاوات[17].

إن أخبار المظالم الوحشية التي ارتكبت بحق الأرمن في جميع المقاطعات الأرمنية، أثارت موجة كبيرة من ثورة الرأي العام الأوروبي. وعلى أثر الهجوم الذي شنته الصحافة، بادرت دول الائتلاف الثلاثي – بريطانيا، وفرنسا وروسيا إلى توجيه العديد من المذكرات شديدة اللهجة إلى كل من الحكومة الاتحادية وألمانيا. كما وجهت الولايات المتحدة مذكرةً احتجاجية إلى الباب العالي، أثارت غضب طلعت باشا[18]. إضافة إلى ذلك بعد إدراكهما مدى وحشية الجرائم والضجة العالمية التي جرت بشأنها، حملتا حليفتي الإمبراطورية العثمانية ألمانيا والنمسا على الكف عن المجازر، ولكن بعد قتل الآلاف من الأرمن الأبرياء[19].

ففي 24 أيار عام 1915؛ أي بعد شهر من بداية الإبادة الأرمنية، وجهت دول الائتلاف الثلاثي – بريطانيا وفرنسا وروسيا بياناً إلى الإدارة العثمانية، والذي نشرته وكالات الأنباء، ينص على مايلي: »اتفقت دول إنكلترا وفرنسا وروسيا على نشر البيان التالي: يقوم الأتراك مع موظفي الحكومة التركية، وعلى الأكثر بمعاونة هؤلاء في عملية تقتيل عام تستهدف الشعب الأرمني. حدثت تلك المجزرة بصورة خاصة في أرضروم، ترجان، بتليس، موش، صاصون، زيتون، كيليكيا وجميع المناطق المجاورة لها في حوالي منتصف شهر نيسان. كما قتل في جوار »وان« سكان حوالي مئة قرية عن بكرة أبيهم. وفي الوقت نفسه تتسلط الحكومة العثمانية في دار السعادة (الأستانة) على السكان الأرمن المسالمين. ولذلك فإن دول الائتلاف تبلغ حكومة الباب العالي، بصورة علنية أنها تلقي على عاتق الحكومة العثمانية، وعلى عاتق جميع الذين اشتركوا وسيشتركون في هذه المجازر الجماعية مسؤولية هذه الجرائم التي استهدفت بها الحكومة التركية الحضارة والمدنية والإنسانية.

24 أيار 1915«[20]

إن هذا البيان كان أول إدانة دولية رسمية من قبل الدول الأوروبية، والذي حذر من مغبة استمرار المظالم ضدّ الأرمن وعمليات القتل الجماعي التي يتعرضون لها، وحمل الحكومة الاتحادية المسؤولية عن تلك الجريمة النكراء.

أثار هذا البيان غضب الحكومة التركية، التي أصدرت بياناً جوابياً مفصلاً يرفض فيه كاملاً اتهامات دول الائتلاف الثلاثي ويعتبرها كاذبة لا تطابق الحقيقة ويقول: »تكذب الحكومة السنية (الاتحادية) تكذيباً قاطعاً، محتوى البيان الآنف الذكر، وما جاء فيه من مدعيات، إنه لكذب محض، أن يكون قد حدث تقتيل عام للشعب الأرمني داخل الممالك العثمانية…[21]«.

وفي الوقت نفسه اعتبر الباب العالي مواقف الدول الأوروبية المذكورة كمؤامرة وعمل عدواني ضد الإمبراطورية قائلاً: »الباب العالي يملك الدلائل والبراهين على محاولات هذه الدول ومؤامراتها، وعلى ما قامت به خلال العصور من أعمال عدوانية عصية على الوصف، لم يشهد لها مثيل في العصور الهمجية… والبيان المقدم من الدول المذكورة إنما هو، بحد ذاته، بمنزلة مستند يقدم البرهان على تحريض وتشجيع الأرمن على الاستمرار في حركاتهم المخلة بالأمن[22]«.

كما نرى أن الحكومة الاتحادية منذ البداية تبنت سياسة الرفض والإنكار للجرائم المشينة، التي ارتكبتها بحق الشعب الأرمني المسالم، كأول جريمة إبادة عرقية في تاريخ البشرية. وفي ظل الصرخة العالمية ووسائل الإعلام واصلت السلطات العثمانية أعمالها الشنيعة من دون تراجع وبكل وقاحة.

هذا وخلال شهري أيار وحزيران عام 1915 استمرت عمليات الترحيل القسري والنفي والقتل وإحراق الأملاك والنهب والسلب والاغتصاب والتذليل في جميع الولايات الأرمنية بدءاً من مرعش ووان وموش وصاصون وأرضروم وخربوط وطرابزون وسيواس ودياربكر وأنقرة والأستانة وكيليكيا وغرب الأناضول وغيرها من سائر المدن والقرى[23]. فمن المعلوم أن ترحيل الأرمن من المقاطعات الأرمنية ونفيهم إلى بلاد النهرين وسورية وتفتيتهم، كان يجري بذريعة حماية المدنيين والقوات العثمانية، من خيانة متوقعة من طرف الأرمن الموالين للروس. وتم تنفيذ هذه العمليات الإجرامية على مرحلتين: أولاً قتل كل الرجال الأكفاء، وثانياً نفي الباقين ولم يكن الفصل الثاني سوى تنضيد برنامج الإبادة[24]. ولنهاية شهر تموز عام 1915 تم ترحيل الأرمن وإبادتهم على قدم وساق. ولم يبق أحد في الولايات الأرمنية، التي كانت أوروبا تطالب السلطة العثمانية من سبعينيات القرن التاسع بإجراء الإصلاحات فيها. وتمكن الاتحاديون بأفظع السبل البربرية في تصفية السكان الأرمن من أراضيهم التاريخية التي قطنوها آلاف السنين.

            في الحادي والثلاثين من آب عام 1915 أعلن طلعت باشا بكل وقاحة: الآن لم تعد هناك مسألة أرمنية، لأن تركيا أنجزت مهمتها بشكل عام، وذلك بتجريد أرمينيا الغربية وكيليكيا والأناضول الغربي من سكانها الأرمن وبقتل معظمهم، أما ما تبقى منهم أحياء، فالقضاء عليهم أمر يسير للغاية، إذ بالإمكان إبادتهم في الصحراء شيئاً فشيئاً. وبذلك أكون قد حققت خلال ثلاثة أشهر ما حققه السلطان عبد الحميد الثاني خلال ثلاثين عاماً[25].

إن المسؤولين الاتحاديين، كما رأينا، قاموا بتصريحات ودعايات متضاربة حول إبادة الأرمن كعنصر أساسي في الإمبراطورية العثمانية. فمن جهة كانوا يعلنون بكل فخر واعتزاز عن مشروعهم الجهنمي بحق الأرمن، ومن جهة أخرى ينكرون الحقائق التاريخية والجرائم غير الإنسانية بحق شعب بكامله.

كما ذكرنا أعلاه، لم تكن أرمينيا العقبة الكبرى في تحقيق المشروع البانطوراني فقط، خاصة بعد الانهيار التدريجي للإمبراطورية العثمانية، بل كانت أهداف الأرمن الرامية إلى حصول الاستقلال تقلق العثمانيين أكثر من ذلك. ويدل على ذلك شهادات إحدى الشخصيات العسكرية النمساوية، الذي كان شاهد عيان من عام 1909 وحتى نهاية الحرب على جميع قرارات ونشاطات الحكومة التركية، حيث يكتب أن شبح قيام أرمينيا الكبرى في المستقبل كان يرعب زعماء حزب »الاتحاد والترقي« قائلاً: »إن البرابرة الاتحاديين، الذين لم يتوانوا عن ارتكاب أي جريمة، اعتبروا إبادة الشعب الأرمني الوسيلة الوحيدة للاستيلاء على المقاطعات الأرمنية الست نهائياً، وصدّ كل التطلعات الأرمنية المستقبلية«[26].

ويكمن أساس هذه المآساة في تبني الاتحاديين المتعصبين قومية متطرفة، وليس خيانة الأرمن كما ادعت السلطات العثمانية. والحقيقة أن التخلص من الأرمن، كان سيجنب الحكومة التركية من التدخلات الأوروبية المستمرة وسيزيل العقبة الرئيسة بين الأتراك العثمانيين والشعوب التركية الأخرى فيما وراء القوقاس وبحر قزوين، ويمهد السبيل لملكية جديدة أمام أبطال الطورانية[27].

* ينفرد موقع “أزتاك العربي للشؤون الأرمنية” بنشر مقاطع كتاب “شهادات غربية عن الإبادة الارمنية في الإمبراطورية العثمانية” إعداد ومراجعة ودراسة: البروفيسور-الدكتور آرشاك بولاديان، دمشق – 2016، (6).

81- نفس المكان، ص 14-16.

82- كيراكوسيان آرمان، القضية الأرمنية وإبادة الأرمن (باللغة الأرمنية)، يريفان، 2007، ص 13-14، انظر أيضاً من مؤلفاته: الدبلوماسية البريطانية، وقضية الأرمن الغربيين (باللغة الأرمنية)، يريفان، 1999، ص412-427.

83- داغر سعد مفلح، ثورة العرب، حلب، 1898، ص 30.

84- المدور مروان، الأرمن، ص 406، داسنابيديان هراج، القضية، ص 19-20، دادريان فاهاكن، لمحات عن الإبادة الأرمنية، ص 21.

85- داغر سعد مفلح، ثورة العرب،  ص 30-31.

86- المدور مروان، الأرمن، ص 406، كيراكوسيان، القضية الأرمنية، ص 14.

87- دادريان فاهاكن، لمحات عن الإبادة الأرمنية، ص 18-19.

88- المدور مروان، الأرمن، ص 406.

89- دادريان فاهاكن، لمحات عن الإبادة الأرمنية، ص 20.

90- نفس المكان، ص 24-25.

91- سمير عربش، مئوية الإبادة، ص 36.

92- كيراكوسيان، القضية الأرمنية، ص 15.

93-  رفعت مولان زاده، الوجه الخفي للانقلاب التركي، تعريب الدكتور توفيق برو، حلب، 1992، ص 134.

94- عربش سمير، مئوية الإبادة الأرمنية، ص 35-36.

95- نفس المكان، ص 36.

96- كيراكوسيان آرمان، القضية الأرمنية، ص 15.

97- رفعت مولان زاده، الوجه الخفي، ص 136.

98- المصدر نفسه، ص 136-137.

99- نفس المكان.

100-  نفس المكان، ص 137-138، انظر أيضاً موقع »الإبادة الأرمنية« (باللغة الأرمنية)، رسلان أحمد فؤاد، أرمينيا، ص 56، كيراكوسيان آ، القضية، ص 15، هوفهانيسيان ريتشارد، المسألة الأرمنية، ص 45…

101- رفعت مولان زاده، الوجه الخفي، ص 138.

102- نفس المكان، ص 141-142.

103- كيراكوسيان آ.، القضية، ص 16، عربش سمير، مئوية الإبادة الأرمنية، ص 37.

104- د. الإمام محمد رفعت، القضية الأرمنية.

105- برنس موسى، مجازر الأرمن، ص 72. أنظر أيضاً: عربش سمير، مئوية الإبادة الأرمنية، ص 40-41، انظر أيضاً المستندات الألمانية والنمساوية الرسمية عن المجازر الأرمنية، ترجمة الكسندر كشيشيان، حلب، 1997، ص 49…

106- انظر المستندات الألمانية والنمساوية، ص 70-71.

107- د. الإمام محمد رفعت، القضية الأرمنية

Share This