قصة زاكار آغا …لهاكوب بارونيان

زاكار آغا عنده وجع أذن فظيع، يتألم طوال الليلة وهو ينتظر الفجر كي يتوجه إلى الطبيب.

(وجع الأذن، كما هو واضح، يأتي في كثير من الأحيان من سمـاع الأقاويل غير اللائقة والكذب والافتراءات).

ويأتي الفجر قبل موعده بقليل لعدم تحمّل زاكار آغا وجعه.

– أحياناً لا يشعر صاحب الألم بوجعه كما يشعر به أي شخص مرهف الاحساس –  فيشعل زاكار آغا القنديل ويذهب ليطرق باب الصيدلي حيث كتب عليه ” مفتوح في الليل “.

لا يُفتَح الباب، فيعود زاكار آغا ويطرق الباب بقوة شدة ألمه. لا أحد يجيب، يتعذب المسكين، فهو غير قادر على الوقوف أو الجلوس، على الحديث أو السكوت، فيسرع  من طرقاته  ويقوّيها تدريجياً. وأخيراً يُسمع صوت رفيع من الأعلى:

  • من هناك؟

يبدو من وجهها الذي ظهر من النافذة أن السائل سيدة في الثلاثين من عمرها.

يجيب زاكار آغا وهو يصيح:

  • هذا أنا.
  • من أنت؟

فيقول وهو يميل برأسه من شدة الألم:

  • أنا زاكار آغا.
  • من هو زاكار آغا؟
  • ليس لدي وقت للكلام سيدتي، عندي وجع فظيع في أذني.
  • وجع أذن؟… منذ الصباح الباكر.. ما اسمك؟
  • أوف.. زاكار آغا يا سيدتي… زاكار آغا يا عيني.. زاكار زاكار.. يسموني زاكار ، صهر (نويمي)… زاكار.. زاكااااار…
  • من هي (نويمي)؟.. ما علينا.. انتظر قليلاً سأفتح لك.
  • قولي للأفندي أن ينزل بسرعة، أرجوك.
  • سيأتي الآن، لديه عمل بين يديه، انتظر.

تحتجب السيدة من النافذة وهي تغلق النافذة، ولكن وجع زاكار آغا لا يحتجب، فيصرخ:

  • أسرعوا، افتحوا الباب.

وبعد ربع ساعة يُفتح الباب، ويبدأ خادم الصيدلية التكنيس، لا يظهر الصيدلي بعد. يغيّر زاكار آغا ملامح وجهه ألف مرة من شدة الألم، فتارة يرفع حاجبيه وتارة يغلق عينيه وتارة يمسح أنفه وتارة أخرى يصر على أسنانه وتارة يفتح فمه. يتفتـّل في الصيدلية وهو يوجّه نظره دائماً نحو الباب حيث سيخرج الصيدلي الذي سيرجوه كي ينقّط في أذنه دواء.

يطلع الفجر ويأتي مرضى آخرون لينتظروا الطبيب، ويدخل الصيدلي من الباب المتوسط.

  • يا أفندي، هل تعطيني دواء لأذني؟
  • انتظر، الطبيب يأتي حالاً.

يجلس زاكار آغا على كرسي ورأسه بين يديه ولا يرى شـيئاً

أمامه، غير قادر على الكلام، ولكن هل يتركون المرء في حاله… إنهم يجعلونه يتكلم بالغصب.

فيقول أحد المرضى:

  • أظن أن أذنك تؤلمك.
  • هل تؤلمك من زمان؟

فيحني زاكار آغا رأسه وكأنه يرّد بنعم، ويرفع  رأسه  إلى  أعلى ليقول لا.

  • ومم أصابك هذا الألم؟

من الصعب الرد على السؤال بحركة من الرأس، والسكوت يخالف اللباقة، وعبارة ” وما شأنك ” كانت ستدين اللباقة، ولذلك بالرغم من ألمه الشديد يضع زاكار آغا يده على أذنه ويتحدث:

  • يا أخي، كنت في ليلة البارحة متعرقاً قليلاً… دخلت الباخرة رقم 2 في البوسفور..

وتدخّـل أحد المرضى.

  • عفواً، وهل تمر الباخرة رقم 2 بــ(هيسار)؟
  • نعم تمر.

فيقول أحد المرضى:

  • تلك الباخرة تمشي ببطء.

ويردف آخر:

  • أنا لم أدخل تلك الباخرة أبداً.

ويضيف رابع:

  • أنا أيضا لم أدخلها.

فيسأل صاحب سؤال (ومم أصابك هذا الألم):

  • إيه.. دخلت الباخرة رقم 2 ، وبعدين..
  • دخلت الباخرة رقم 2، فقال غازاروس آغا إن…

فيسأل أحد المرضى:

  • لا تنس كلامك، هل قصدت بغازاروس آغا صانع الأحذية صاحبنا ذاك؟
  • نعم.
  • وكيف حال أعماله؟

فيسأل آخر:

  • وهل كان عمل غازاروس آغا سيئاً و…؟

يصرخ ثالث مندهشاً.

  • غازاروس آغا صاحبنا؟

فيجيب رابع:

  • كانت سيئة، آه، فقد وقع الرجل على صهر فاسق.. إنه تيرينيك.. وقد باع البيت وما فيه.
  • تيرينيك؟ تيرينيك هذا؟ أيها الفاجر.. ابن بارسيغ.. كان والده رجلاً طيباً.

فيقول أحدهم:

  • إذاً هو يشبه أمه!

ويتمتم آخر:

  • كانت والدته سيدة طيبة أيضاً.

ويقول آخر:

  • غازاروس آغا المسكين، كم يصنع أحذية جيدة، رخيصة ومتينة!

فيجيب آخر:

  • لا يستطيع صنع الحذاء على حسب قياس القدم، فهـو يملـك

عدداً من القوالب ويأخذ المقاسات على حسب تلك القوالب، ويريد أن تكون أقدام كل زبائنه على مقاس وشكل قوالبه.

كان زاكار آغا خلال هذه الأحاديث التي دارت بين المرضى يشعر بوجعين، الأول وجع الأذن والثاني وجع المقاطعة، فهم لا يدعون المرء كي يتكلم، لكن اللباقة أمرت أن يصبر، وصبر حتى عاد صاحب السؤال الأول يتحدث.

  • اتركوا القوالب ولنستمع إلى زاكار آغا. إيه، زاكار آغا، ماذا قال غازاروس آغا؟

فقال أحد المرضى:

  • دعني أقاطعك [1]، وهل يعقل أن تجلس يا أخي على رأس الباخرة وأنت عرقان؟ وشاركه الرأي الآخرون.
  • لا يعقل.
  • هذه قلة عقل.
  • ذلك يعني أن تؤذي صحتك.
  • أنت بنفسك دعوت الوجع إليك.
  • حتى الأذن من حديد لا تستطيع التحمّل أمام الريح وهي متعرّقة.
  • هذا جنون فحسب.
  • الحقيقة، هذه غباوة.

بدأ صبر زاكار آغا ينفذ، واللباقة تملأ كأس صبره. ينتظر ثم يكمل بناء على دعوة المستمعين:

  • قلت أنا متعرق وكنت أبرد، ونزلت إلى الغرفة السفلية.

ومقاطعة من جديد:

  • أحسنت، أرأيت الذكاء؟
  • اعذروني إذاً.
  • قولنا مردود علينا.
  • إيه قل كذلك، ونحن اعتقدنا أنك جلست على رأس الباخرة.
  • حسناً فعلت ولم تسمع كلام غازاروس آغا، إنه رجل أحمق هذا غازاروس آغا.
  • أخوه المرحوم كان أيضاً كذلك.
  • ماذا حصل مع زوجته؟
  • تزوجت مع ابن هامبارتسوم.
  • مع عديل مانوك الذي كان لديه بيتاً؟
  • ألم يحترق ذلك البيت؟
  • من زمان، واشترى الأرض مسيو أنطوان.
  • كم هي جميلة ابنة مسيو أنطوان!
  • وكم ملابسها أنيقة تلك الشقية!
  • في الأسبوع الماضي كانت تلبس رداءً..
  • وبكم يباع الرداء؟
  • حسب القماش، فقد يبدأ من نصف ليرة ذهباً وأنت طالع.
  • سوق (غالاطا) أرخص من سوق (بيرا).
  • نعم، أنا أشتري ملابسي دائماً من (غلاطا) .. وقد اشتريت بنطالي هذا بخمس مجيديات.
  • وأنا اشتريت معطفي بمجيديتين.
  • لقد أعطيت ثمانية مجيديات من أجل (الباردوسو) ردائي، لكنها بضاعة جيدة جداً، لقد اشتريتها مع شخص يفهم بالبضاعة.
  • اتركوا هذا الرجل يكمل حديثه… تكلم زاكار آغا.

كان زاكار آغا قد قرر أن لا يكمل الحديث الذي قاطعوه، وبذلك أجاب:

  • انتهى كلامي، اكتفيت..
  • لا لا، لم تكتف.
  • قلت إنك متعرق وستبرد، وقلت إنك نزلت إلى الغرفة السفلية وجلست.. ماذا فعلت في الغرفة السفلية، لنر؟
  • ماذا حصل في الغرفة السفلية؟
  • من كان في الغرفة السفلية؟
  • انتهيت يا إخواني، انتهيت.
  • ماذا حصل في الغرفة السفلية حتى بردت أذنك؟
  • هل كانت النافذة مفتوحة؟
  • هل كان الباب مفتوحاً؟
  • هل ضرب أحدهم على أذنك؟
  • لماذا لا تتكلم زاكار آغا؟
  • يقولون إن الذي يخبئ الألم لا يجد الدواء، لا تخبئ، قل، لربما نصحناك بدواء يفيدك.
  • هل انزعجتَ من شيء ولذلك لا تريد استكمال الحديث؟
  • أبداً.
  • كنا نستمع إليك بسرور، لماذا قطعت فجأة؟ استمر، استمر، تنسى بذلك وجعك؟

وأخذ زاكار آغا بطرف الحديث من جديد.

  • نزلت إلى الغرفة السفلية وجلسنا، كانت النافذة بجانبي مفتوحة وكذلك النافذة المقابلة…

ومقاطعة من جديد.

  • (كوران دير) تيار هواء.. تيار هواء..
  • يا أخي، كان عليك أن تغلق واحدة منها.
  • وهل يجلس المرء في تيار الهواء؟
  • هذه ولدنة!

فقال زاكار آغا وأنهى الجملة كي يغطي على انزعاجه:

  • طلبت أن يغلقوها فوراً، وخرجت من الباخرة وذهبت إلى البيت وبدأت أذني تتألم، هذا كل شيء.
  • لقد عرّضتَ أذنك للهواء.
  • نعم عرّضتَها للهواء.
  • هذا لا شيء، سيختفي الألم.

بشّر الصيدلي الذي كان يقف أمام الباب أن الطبيب قادم. فجهّز زاكار آغا نفسه ليتقدم أول واحد عندما دخل الطبيب. ولحسن الحظ قام الطبيب بمقاطعة حديث مريضه قليلاً وكتب وصفة ثم أخذ أجره.

طلب زاكار آغا تحضير الدواء وخرج وهو يقول في نفسه بغضب كان يحاول إخفاءه عن الحاضرين.

” ما أسوأ ألا يدعون غيرهم يكمل حديثه، ملاحظات وأسئلة من كل صوب.. فينسى المرء ما يوّد أن يقوله. لقد ندمت على قولي أن أذني تؤلمني.. أنا الذي أعرفه أنهم يستمعون إلى ما يقال ومن ثم يتكلمون. على أساس أنني أنا المتحدث، فقد تحدث المستمعون أكثر مني، الله يسامحك، انتظر كي أكمل كلامي ثم تحدث أنت.. كأن وجعي ازداد من شدة غضبي.. اغفر لي يارب، لم أكن أريد ذمّهم، لكنهم لا يتركونك “.

لم يكن زاكار آغا ليغضب لو علم أنـه هـو أيضاً لديـه ذلـك

الضعف لمقاطعة حديث غيره، هذا الضعف يظهر على كل أرمني مع بعض الاستثناءات الصغيرة، في المجالس الوطنية واللجان والمجتمع، وإننا نبرز هذا الضعف كل يوم في حياتنا العائلية والتجارية والتي أضحت عادة من عاداتنا.

أنا أيضاً غير صبور، لا  يمكنني الصفح  عن  أحد  يكمل  حديثه، غالباً ما أقاطع حديثه بأسئلة من داخل وخارج الموضوع، حتى ينسى المسكين كلامه ويسألني:

  • ماذا كنت أقول؟ أين كنت سأربط الجملة؟ يا أخي، عمَّ كنا نتحدث؟ كنت سأقول شيئاً، كنت أتحدث عن شيء ما..

ثم أبدأ أساعده كي يتذكر عمَّ كان يتحدث، لا يتذكر فيذهب، وهو يعد أن يأتي ليراني عندما يجد طرف الحديث..

هذا يعني أنني مقاطع من الدرجة الأولى لكن هناك مقاطعين أنا لا أساوي شيئاً أمامهم، فأمام هؤلاء لا ينسى المرء فقط عما كان يتحدث بل ينسى نفسه أيضاً..

الله يحفظكم ويحفظ أولادكم من مقاطعين أمثالهم.

قصة زاكار آغا، هاكوب بارونيان، ترجمة د. نورا أريسيان

 

[1] وجاء في النص بالأرمني (سأقاطع حديثك بالعسل) / المترجمة.

Share This