وثيقة تاريخية مهمة

 

من جملة الوثائق التاريخية التي تثبت حماية العرب المسلمين للنصارى وخاصة الأرمن، الرسالة الصادرة عن شريف مكة الملك حسين بن علي سنة 1336 هـ 1917 م. وفيها يوصي الأميرين فيصل وعبد العزيز الجربا بالمحافظة على أبناء الطائفة الأرمنية، وتسهيل مهمتهم في ظعنهم وإقامتهم، باعتبارهم أهل ذمة المسلمين، وقد أثبتناها بنصها وهذا ما جاء فيها[1]:

بسم الله الرحمن الرحيم

(من الحسين بن علي ملك البلاد العربية وشريف مكة وأميرها إلى الأمراء الأجلاء الأماجد الأمير فيصل والأمير عبد العزيز الجربا، السلام ورحمة الله وبركاته. أما بعد صدرت الأحرف من أم القرى بتاريخ 18 رجب 1336 نحمد الله الذي لا إله إلا هو إليكم ثم نصلي ونسلم على نبيه وآله وصحبه وسلم. ونخبركم بأنه والثناء له تبارك وتعالى بصحة وعافية ونعمة من فضله ضافية وافية وأسبل الله علينا وإياكم سوابغ نعمه. وإن المرغوب بتحريره المحافظة على كل من تخلف بأطرافكم وجهاتكم وبين عشائركم من الطائفة اليعقوبية الأرمنية، تساعدونهم على كل أمورهم، وتحافظون عليهم، كما تحافظون على أنفسكم وأموالكم وأبنائكم، وتسهلون كل ما يحتاجون إليه في طعنهم وإقامتهم، فإنهم أهل ذمة المسلمين، والذي قال فيهم صلوات الله عليه وسلامه: من أخذ عليهم عقال بعير كنت خصمه يوم القيامة، وهذا من أهم ما نكفلكم به، وننتظره من شيمكم وهممكم، والله يتولانا وإياكم بتوفيقه.. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته).

الخاتم.

في بداية الأمر أظهرت الدولة بعض الميل لحماية هذه الحشود الراحلة. كان المسؤولون يقسمونهم عامة إلى جماعات كل واحدة منها تعد عدة مئات، وفي بعض الأحيان كانت مؤلفة من عدة آلاف إنسان. جَهَّزتْ السلطة في بعض الأحيان عربات تجرها الثيران لنقل الأثاثات المنزلية، وكان المهجرون يتدافعون للتسلق عليها. كان يصطحب كل قافلة حرس من الدرك ظاهرياً لحمايتهم وقيادتهم. كانت النساء يحملن بين أذرعهن وعلى ظهورهن أطفالهن، ويمشين جنباً إلى جنب مع الرجال المسنين الذين يعرجون ويمشون متكئين على عصا من الخيزران أو القصب. كان الأطفال يركضون على طول الطريق، وفي المراحل الأولى، كانوا يحسبون هذا لهواً ورحلة خارج بيوتهم. كان المياسير منهم يملكون حصاناً أو حماراً، وفي بعض الأحيان يحتفظ الفلاح ببقرة أو شاة، وبذلك يأخذ الموكب صورة مُرَقَّشَةً بمسيرة العائلة مع حيواناتها الأهلية من كلاب وقطط وطيور. بدأت هذه القوافل البائسة بالرحيل من آلاف المدن والقرى الأرمنية وملؤوا جميع الطرق التي تؤدي إلى الجنوب. في كل مكان يتحركون، فيه كانوا يثيرون عاصفة من الغبار وراءهم. كانت الأشياء التي تخلّوا عنها على قارعة الطريق من الكراسي والبطانيات والشراشف والأدوات المنزلية وأشياء مختلفة أخرى تشير إلى وجهة القوافل.

حينما بدأت القوافل بالسير كان الأفراد يحملون سمات البشر، لكن بعد ساعات قليلة من السفر كسا غبار الطريق وجوههم وثيابهم، وتشكلت قشرة صلبة على أرجلهم من وحل الطريق وبسبب تعبهم ووهنهم الشديدين ووجوههم المخبولة وبسبب وحشية “حُماتهم” كانوا يشبهون نوعاً جديداً وغريباً من فصائل الحيوانات. كانت كل الطرق الرئيسة في آسيا الصغرى مزدحمة بهؤلاء الجماعات المهاجرين المساكين، وذلك في الأشهر الستة الأولى من عام 1915. كانوا يعرجون داخل الوديان وخارجها، ويتسلقون تقريباً كل الجبال والهضاب، ويعرفون جيداً أن الطرق كلها تؤدي حتماً إلى الموت. قرية بعد قرية، ومدينة بعد مدينة، فُرغت من سكانها الأرمن. في الظروف المزعجة هذه، وخلال مدة ستة أشهر هُجّر حسب معلوماتنا حوالي 1,2 مليون من الناس إلى الصحراء السورية. “صلّوا من أجلنا” كانوا يقولون وهم يهجرون بيوتهم التي عاش فيها أجدادهم مدة/2500/ سنة “لن نراكم في هذه الدنيا مرة أخرى. لكننا سنلتقي يوماً ما، صلّوا من أجلنا”.

لم يكن الأرمن قد تركوا بيوتهم بعد، حينما بدأت الاضطهادات. كانت الطرق التي يمشون عليها ضيقة كدروب الدواب. كانت القافلة التي تبدأ بالسير بانتظام قبل ساعات قليلة، تتحول فيما بعد إلى جموع زاحفة من دون ترتيب. فُصِلتْ النساء عن أطفالهن، والأزواج عن زوجاتهم. انقطع الاتصال بين المسنين وعائلاتهم بعد فترة قصيرة بسبب كبرهم وتعبهم الشديد وتقرّح أقدامهم. كان سائقو عربات الثيران الأتراك، يرمونهم، ويرمون ممتلكاتهم فجأة على قارعة الطريق بعد ابتزازهم حتى آخر قرش، ويرجعون ثانية إلى القرية لإيجاد ضحايا أخرى جديدة. هكذا بعد فترة قليلة من الوقت، كانوا يُكرهون الشباب والمسنين للسير على الأقدام. فالدرك الذين أرسلوا “لحماية” هؤلاء المهاجرين أصبحوا، بعد ساعات قليلة معذبيهم. كان الدرك يمشون حاملين بنادقهم المحشوة والحراب مثبتة عليها. كانوا يحثّون بوحشية كل واحد من المهجرين على المشي حينما يبدي تباطؤاً في خطواته، أما أولئك الذين يحاولون الاستراحة، أو يقفون على الطريق من شدة التعب، فكانوا يجبرون بوحشية للانضمام إلى الحشد. حتى إنهم كانوا يحثون النساء الحوامل على المشي تحت تهديد الحراب. إذا ولدت واحدة منهن على الطريق، ولم يكن هذا نادراً، كانت هذه المرأة تجبر على الوقوف والانضمام رأساً إلى المشاة. هكذا أصبح طريق السفر الطويل صراعاً مستمراً مع السكان المحليين. كانت مفارز من الدرك تعلم القبائل الكردية أن ضحاياهم يقتربون، ويخبرون الفلاحين الأتراك أيضاً أن الفرصة التي انتظروها طويلاً، قد وصلت. حتى إن الدولة، قد فتحت سجونها في كل أنحاء تركيا، وأطلقت سراح المجرمين، وأوصتهم أن يتصرفوا (كمسلمين جيدين) تجاه الأرمن الذين يقتربون. وهكذا كانت كل قافلة تخوض معارك مستمرة للوجود مع عدة طبقات من الأعداء. مع الدرك المرافقين للقوافل والفلاحين الأتراك والقبائل الكردية وقطاع الطرق من كل نوع. يجب علينا أن نتذكر دائماً أن أولئك الرجال الذين تمكنوا من مساعدة عابري السبيل المساكين، قتلوا كلهم تقريباً، أو أجبروا على الخدمة الإلزامية في الجيش كعمال سخرة. كان هؤلاء المهاجرون يُجردون من كل أنواع الأسلحة قبل بداية السفر. وبعد ساعات قليلة من السفر، كان الأكراد يندفعون من بيوتهم الجبلية ويهاجمون الفتيات، ويرفعون خمارهن، ويخطفون الجميلات منهن نحو التلال. كانوا يسرقون الفتيات الصغيرات من دون رحمة لإرضاء نزواتهم الدنيئة. لو حصل أن وجدت في حوزة المهاجرين نقود أو أطعمة، كان المهاجمون يستولون عليها، وبذلك يتركونهم فريسة الجوع بلا أمل، كانوا يسرقون حتى ثيابهم. وكان الرجال والنساء يبقون في حالة من العُري الكامل. خلال مدة السلب كلها، كان الأكراد يقتلونهم بكل حرية، وصراخ النساء والرجال المسنين يزيد الفزع العام. سيجد الناجون من هذه الاعتداءات المكشوفة فظائع جديدة تنتظرهم في القرى التركية. هنا سيهاجم الأفظاظ من رجال الأتراك النساء، ويتركنهن أحياناً ميتات، أو يهذين بِخُبْلِ من معاناتهن بعد إمضاء ليلة حمراء ماجنة وشائنة من هذا النوع، يبدأ المهاجرون، لِنَقُلْ الناجون، بالسير من جديد في صباح اليوم التالي. كانت ضراوة الدرك الأتراك تزداد كلما طالت الرحلة. كان يُقتل بالحربة في الحال كل واحد يقع على الطريق من شدة الأعياء. بدأ الأرمن يموتون بالمئات من الجوع والعطش. حتى ولو وصلوا إلى الأنهار، فالدرك لم يسمحوا لهم بالشرب، وذلك لتعذيبهم فقط. تقرّحت أرجلهم العارية التي كانت تطأ رمال الصحراء الحارقة، إن الآلاف منهم وقعوا وماتوا، أو قتلوا حيثما يرقدون. هكذا فالموكب الذي كان يتألف من الآدميين، خلال عدة أيام يصبح حشداً يمشي متعثراً على شكل هياكل عظمية مغطاة بالغبار والوحل، تنظر بنهم شديد إلى فتات الطعام. كانوا يأكلون كل الفضلات والنفايات التي تقع على طريقهم. المشاهد الوحشية التي كانت تقع كل ساعة أوصلتهم إلى الخُبل والجنون. كانوا مرضى بكل الأمراض التي تصاحب الحرمان الشديد والمشقات، ولكنهم مع ذلك كانوا يحثون على السير بالسياط والعصي والحراب من مضطهديهم.

عندما كان المهاجرون يتحركون إلى الأمام، كانوا يتركون خلفهم قافلة من الأموات، من دون دفن، ورجالاً مسنين، ونساء وصلوا إلى المرحلة الأخيرة، مرحلة الموت من مرض التيفوس والزحار والكوليرا، أما الأطفال الصغار المحمولون على ظهور أمهاتهم، فإنهم يصدرون العويل الأخير طلباً للأكل والشرب. كانت النساء يترجون المارة الغرباء، ليأخذوا أطفالهن لإنقاذهم من معذبيهم. عندما كن يفشلن في إقناعهم، كن يرمين الأطفال في الآبار، أو يتركنهم خلف الشجيرات ليموتوا على الأقل بسكينة. تُرك في الخلف جيش صغير من البنات اللواتي بعنَ كعبيدات، بسعر مجيدية واحدة (حوالي ثمانين سنتاً) في أكثر الأحيان. كانت تلك النسوة، بعد أن يؤدين مآرب أسيادهن الوحشية الدنيئة، كنّ يُدفعنَ إلى حياة البغاء بالقوة.

كانت قافلة من المرضى والمحتضرين ينامون جنباً إلى جنب مع الموتى. كانت تتبعهم أسراب من العقبان في الهواء، والكلاب كانت تتقاتل من أجل نهش الجثث. كانت تلك الأسراب ترافقهم دائماً على الطريق.

إن أفظع المشاهد حدثت قرب الأنهار وخاصة قرب الفرات. كان الدرك في بعض الأحيان يدفعون النساء في الماء عند عبور هذا النهر، ويطلقون بعدها الرصاص على كل إنسان يحاول النجاة بنفسه بالسباحة. كانت النساء يلقين بأنفسهن في النهر، لإنقاذ أعراضهن وأطفالهن بين أيديهن. “في الأسبوع الأخير من شهر حزيران” أقتبس هذا من تقرير قنصلي على سبيل المثال: “هُجرت مجموعات من النساء الأرمنيات في أيام متعاقبة من أرضروم. أبيد أكثرهن في الطريق إما بالرصاص وإما بالغرق. ألقيت في الماء سيدة تدعى زاروهي، وهي غنية ومسنة. نجت هذه السيدة بنفسها، وذلك بتشبثها بجلمود كبير في النهر. تمكنت من الاقتراب إلى الحافة، ورجعت إلى أرضروم واختبأت في منزل أحد الأصدقاء الأتراك. أخبرت الأمير أركوتينسكي ممثل الجمعيات الفلاحية الروسية في أرضروم بأنها ترتعد حتى من أن تتذكر كيف قتل مئات من الأطفال بحراب الأتراك، وألقوا في الفرات، وكيف عرّوا الرجال والنساء، وربطوا بعضهم ببعض بالمئات، وقتلوا بالرصاص، وألقوا بجثثهم في النهر. تقول أيضاً: إنه في حنية النهر الضيقة عند مدينة إرزنجان ألقيت آلاف الجثث، حتى إن النهر غيّر مجراه لزمن غير قصير، لمسافة عدة مئات من الياردات، بسبب هذا السد البشري الهائل.

إنه لمن السخف ادعاء الحكومة التركية أنها (نقلت الأرمن إلى بيوت جديدة)، إن الطريقة التي عوملت بها القوافل تبيّن بجلاء أن الهدف الرئيسَ لأنور وطلعت كان الإبادة. كم من المهجرين وصلوا إلى غاياتهم نحو الجنوب تحت هذه الظروف الباعثة على الغثيان والتقزز في النفس؟

أمدني بالتفاصيل التالية القنصل الأمريكي في حلب وهي الآن ضمن مستندات الإدارة الأمريكية في واشنطن: “في اليوم الأول من حزيران، خرجت قافلة مؤلفة من ثلاثة آلاف أرمني أكثرهم نساء وبنات وأطفال من مدينة خاربوت Harpout، وتبعاً للعادة أمنت لهم الحكومة مرافقة مؤلفة من سبعين دركياً بإمرة الزعيم التركي البيك.

مع الوقت برهن هؤلاء الجنود طبقاً للخبرة السابقة، بأنهم ليسوا حماتهم؛ بل إنهم معذبوهم وجلادوهم. لم يكونوا قد ابتعدوا إلا قليلاً من خاربوت، حينما طلب هذا البيك /400/ ليرة ذهبية من القافلة، بذريعة أنه سيحميها حتى وصولها إلى مدينة ملاطية، بعد أن سرق الشيء الوحيد الباقي لديهم، وهو المال الذي يؤمن لهم الطعام، هرب تاركاً الجميع تحت رحمة الدرك.

وجود هؤلاء البائسين على طول الطريق إلى رأس العين -المحطة الأولى على طريق بغداد، أصبح سلسلة طويلة من الرعب. تقدم الدرك قافلة المهاجرين على الطريق ليخبروا القبائل الجبلية نصف المتوحشة، بأن عدة آلاف من نساء وبنات الأرمن تقترب. بدأ العرب والأكراد يأخذون معهم البنات، هاجمهم الجبليون الأكراد مرات عديدة. وأرهبوا وقتلوا النساء، واشتركوا مع الأتراك في طقوس عربيدة ماجنة. قُتل الرجال القليلون الذين كانوا في صحبة القافلة واحداً بعد الآخر. تمكنت بعض النساء في هذه الفوضى، أن يخفين المال في أفواههن، وشعرهن لتأمين حاجاتهن الضرورية. لكن مع ذلك كنَّ عرضة للسلب لمرات عديدة من رجال القبائل الكردية، في النهاية بعدما سرق ونهب وقتل الدرك “أمانتهم” لمدة ثلاثة عشر يوماً هجروهم تماماً. ذهب الأكراد إلى تلك الجماعة بعد يومين، وأطلقوا الرصاص على كل الذكور الأحياء، لقد وجدوا مئة وخمسين شخصاً تقريباً تتراوح أعمارهم بين /15-90/ سنة. أخذوهم على وجه السرعة، وذبحوهم حتى آخر رجل.

انضمت قافلة أخرى إلى قافلة خاربوت، وكانت تضم حوالي /18/ ألف إنسان. استلم القيادة الآن بيك كردي آخر. كانت هذه الوظيفة فرصة للسلب والنهب والاغتصاب والقتل لكل القياديّين الذين عيّنوا في هذا المنصب. استدعى رئيس العصابة هذا كل أتباعه من الجبال، ودعاهم لتنفيذ كل رغباتهم على هذا الحشد الكبير من الأرمن، خطفت أجمل البنات يوماً بعد يوم، وليلة بعد ليلة، ورجعن أحياناً في حالة يرثى لها، ليسردن القصة المفصّلة لعذاباتهن. كان كل مشرد من المسنين والعاجزين عن مرافقتهم يُقتل في الحال. كان يسمح للحقيرين من السكان الأكراد والأتراك (افتراس) البنات الأرمنيات عند وصولهن إلى القرى التركية والكردية، عندما وصلت هذه القافلة المتناقضة إلى ضفاف الفرات رأوا جثث مئتي رجل تعوم على السطح، خلال هذه المدة كلها كانت تتكرر سرقتهم، حتى إنه لم يبق لديهم عملياً غير ثياب ممزقة، وحتى تلك سرقها الأكراد، مشى هؤلاء شبه عراة لمدة خمسة أيام تحت شمس الصحراء القائظة، لم يحصلوا حتى على كل كسرة من الخبز، وقطرة من الماء، لمدة خمسة أيام أخرى. “وقع المئات على قارعة الطريق”يقول التقرير”: ألسنتهم كانت سوداء كالفحم الحجري”. حينما وصلوا إلى نبع بعد انتهاء خمسة أيام، اندفع كلهم إليه بشكل بديهي، لكن سدّ الشرطة الطريق عليهم، ومنعوهم من شرب ولو نقطة واحدة من الماء، كانت غايتهم بيع كأس من الماء بليرة أو بثلاث ليرات، وفي بعض الأحيان احتفظوا بالماء بعد سرقتهم المال. قذفت النساء أنفسهن من شدة الظمأ في مكان آخر، حيث توجد الآبار، لأنه لم يكن هناك دلو لسحب الماء. غرقت هذه النساء ومع ذلك شرب الباقون من تلك الآبار، رغم أن الجثث كانت تعوم على سطح الماء وتلوثها. عندما كانت الآبار سطحية في بعض الأحيان، كنّ ينزلن فيها، ويخرجن بسهولة، أما الباقون، فقد كانوا يندفعون ليعلقوا، أو يمتصّوا ثيابهن الندية والقذرة لإطفاء حريق ظمأهم المميت. عندما مرّوا من القرى العربية في حالة العُري هذه، أشفق عليهم العرب، وأعطوهم الثياب العتيقة، ليستروا بها عورتهم. اشترى بعض المهجرين الثياب، ولكنَّ آخرين بقوا عراة طوال الطريق، حتى وصولهم إلى مدينة حلب. هذه النساء العاريات المسكينات كنّ بالكاد يمشين من خجلهن، وظهورهن منحنية بشكل مضاعف.

في اليوم السابع عشر وصل بعض المخلوقات إلى حلب. وصل إلى الهدف /150/ من النساء والأطفال فقط من القافلة التي كانت مؤلفة من /18/ ألف شخص. بعض الجميلات كنّ مازلن يعشن كأسيرات عند الأكراد والأتراك، أما الباقيات فقد قتلن جميعاً.

إن السبب الرئيسي لسرد مشاهد من هذا النوع من دون التفاصيل هو أن الجمهور المتكلم باللغة الإنكليزية، لا يمكنه أن يتصور بدقة  ماهية هذه الأمة التي نسميها نحن تركيا.

إنني من دون شك لم أخبركم عن التفاصيل الفظيعة، لأن السرد التفصيلي لهذه الطقوس العربيدة السادية التي كان الرجال والنساء الأرمن ضحيتها، لا يمكن أن تنشر في الصحافة الأمريكية. أي جرائم يمكن للعقل البشري الشرير والمنحرف غريزياً أن يبتكر!! وأي تطور لطرق التعذيب والظلم يمكن لأحطّ خيال أن يتصور؟! أصبحت المحنة اليومية لهذا الشعب المؤمن.

إنني واثق أنه لا توجد أحداث فظيعة كهذه في تاريخ الجنس البشري كله، إن المذابح والاضطهادات التي حدثت في الماضي تبدو تافهة بالمقارنة مع عذاب العرق الأرمني عام 1915. إن ذبح الألبيجينيس[2] Albigenesis من الأحداث الجديرة بالشفقة كثيراً في التاريخ، حيث قتل نحو /60/ ألف إنسان في هذه الهيجانات المتعصبة، في مذبحة القديس بارتلميو St.Barthelomew، فقد حوالي /30/ ألف إنسان حياتهم، سبب الوسبرز Vesper الصقليين دمار ثمانية آلاف شخص، وكانت هذه تصوّر على أنها من أفظع الثورانات الوحشية من هذا النوع. كتبت مجلدات عن محكمة التفتيش الإسبانية أيام حكم توركويمدا Torquemada، ومع ذلك بُعث إلى الموت ثمانية آلاف من الهراطقة فقط خلال مدة حكمه الثمانية عشر عاماً. من المحتمل أن الحادثة الوحيدة التي تشبه تهجير الأرمن كثيراً، هو طرد اليهود من إسبانيا أيام فرديناند وأزابيلا[3] وفقاً لبريسكوت Prescott مئة وستون ألفاً اجتثوا من بيوتهم، وانتشروا في إفريقيا وأوروبا. مع ذلك كله تبدو هذه الاضطهادات تافهة حينما نقارنها مع شقاء الأرمن وتدمير حوالي /600/ ألف أو ربما مليون من الأشخاص[4].

حينما نحلل النفسية التي قامت بهذه الفظائع ضد الأرمن، ونقارنها مع المذابح المبكرة خلال الحكم العثماني، نرى أن هناك تفسيراً واحداً يمكننا بالكاد أن نقبله كعذر. كانت كل هذه الاضطهادات والمذابح نتيجة التعصب الديني وكل الرجال والنساء الذين حرّضوا عليها، كانوا بالفعل يؤمنون بصدق وإخلاص، إنهم يخدمون خالقهم بورع، وإنهم سينالون على ذلك الثواب في الآخرة. إن التعصب الديني عند الغوغاء والرعاع الأتراك والأكراد من دون شك، كان الحافز الذي دفعهم لذبح الأرمن “خدمة الله”. ولكن الرجال الذين فكروا وخططوا للجريمة، كانوا عملياً كلهم ملحدين لا يحترمون الإسلام ولا المسيحية[5]، والباعث الوحيد عندهم كان تمرير سياسة الدولة الماكرة المجرمة.

لم يكن الأرمن الشعب الوحيد بين الأمم التابعة لتركيا، عانت من نتائج سياسة “جعل تركيا بلداً للأتراك حصراً”. إن القصة التي سردتها عن الأرمن يمكنها أن تطبق مع بعض التعديلات على اليونانيين والسوريين أيضاً. كان اليونانيون في الحقيقة أولى ضحايا سياسة الصهر والدمار هذه. وصفت سابقاً كيف أنه في الأشهر التي سبقت الحرب الأوروبية، بدأت الدولة العثمانية بتهجير المواطنين اليونانيين على طول ساحل آسيا الصغرى. أثارت هذه الأحداث اهتماماً قليلاً في أوروبا والولايات المتحدة. أخرج أكثر من مئة ألف شخص من اليونانيين من بيوتهم على ساحل البحر الأبيض المتوسط، وأرسلوا إلى الجزر اليونانية، وإلى الداخل في مدة زمنية لا تزيد على 3-4 أشهر. كان هذا التهجير “سلمياً” في أكثر الأحيان، أي هُجّر اليونانيون عملياً إلى أمكنة جديدة، ولم يتعرضوا إلى الإبادة الجماعية. يمكننا أن نؤكد هنا أن عدم اعتراض العالم المتمدن ضد هذا التهجير، شجَّع الأتراك مستقبلاً ليقرروا تطبيق الطرق نفسها، ليس على اليونانيين فحسب، بل الأرمن والسوريين والنسطوريين وغيرهم من الشعوب الخاضعة لهم. قال قائد شرطة القسطنطينية بدري بك مرة لأحد رجال السكرتارية في السفارة: إن الأتراك طردوا اليونانيين بنجاح تام، حتى إن الحكومة قررت تطبيق المنهج نفسه على كل عرق داخل الإمبراطورية.

إن استشهاد اليونانيين نُفذ خلال فترتين من الزمن. الفترة الأولى وهي فترة ما قبل الحرب، والثانية في أوائل عام 1915. في الفترة الأولى تأثر اليونانيون الذين استوطنوا سواحل آسيا الصغرى. أما في المرحلة الثانية فتأثر الذين يعيشون في تراقيا Thrace والمناطق المحيطة ببحر مرمرة والدردنيل والبوسفور وسواحل البحر الأسود الجنوبية[6]. سيقَ من هذه المناطق الأخيرة مئات الآلاف منهم إلى عمق آسيا  الصغرى. تبنّى الأتراك تقريباً الطرق نفسه ضد اليونانيين. بدؤوا تنفيذ ذلك بقبول اليونانيين في الجيش العثماني، وتحويلهم بعدئذ إلى فرق عمل سخرة، كي يعملوا في بناء الطرق في القفقاس وأعمال أخرى عديدة. مات من هؤلاء الجنود اليونانيين الآلاف من البرد والجوع والتعب تماماً كالأرمن، حدث التفتيش نفسه على الأسلحة المخفية و المصادرات أيضاً. كان النهب غايتهم النهائية المنشودة. أجبر الأتراك أتباعهم اليونانيين على الإسلام، سُرقت البنات اليونانيات كالأرمنيات، وأرسلن إلى الحرملك التركي، أما الأطفال، فإنهم أرسلوا إلى المياتم التركية لإعادة تربيتهم. اتهم اليونانيون كالأرمن بالخيانة للدولة التركية. اتهمهم الأتراك بتزويد الغواصات الإنكليزية في بحر مرمرة بالمؤن والذخيرة، وبأنهم يعملون جواسيس لهم. أعلن الأتراك أن اليونانيين غير مخلصين للحكومة العثمانية، وأنهم ينظرون إلى اليوم الذي سينضمون إلى اليونان. هذه الاتهامات صحيحة من دون شك، لأن اليونانيين الذين عانوا من الاضطهادات التركية التي لا توصف خلال خمسة قرون، كانوا ينظرون بتوق إلى اليوم الذي ستصبح مناطقهم قسماً من الوطن، وهذا كان متوقعاً وطبيعياً جداً من اليونانيين. تشبّث الاتراك بدورهم، كما هو في حال الأرمن، بهذا العذر للانقضاض العنيف على العرق كله. جمع اليونانيون في كل مكان وشكلت مجموعات منهم تحت “حماية” الدرك التركي، وأبعد أكثرهم إلى الداخل سيراً على الأقدام[7]. ليس معروفاً تماماً عدد الأشخاص الذين بُعثروا على هذا الشكل، ولكن تتراوح التقديرات بين /200 ألف إلى مليون/ شخص. قاست هذه القوافل من عوز شديد، لكنها لم تُبدْ بالكامل كالأرمن، وهذا هو السبب على الأرجح أن العالم الخارجي لم يسمع بهم كثيراً. لم يعط الأتراك اليونانيين هذا الاعتبار من موقع أي شفقة. كانت لليونانيين عكس الأرمن[8] حكومة، تهتم بأمورها الحيوية. كان الاعتقاد العام السائد عند الحلفاء في هذا الوقت، أن اليونان ستدخل الحرب إلى جانب الحلفاء، والإبادة الجماعية لليونانيين في آسيا الصغرى، ستغيّر من دون شك الرأي العام في اليونان بشكل أن الملك الميال للألمان، لن يتمكن من إبقاء اليونان خارج مجال الحرب. إذاً كانت هذه مسألة سياسة، أنقذت بموجبها الدولة اليونانية مواطنيها في تركيا، لكن مع ذلك، كانت معاناتهم فظيعة، وتؤلف فصلاً آخر في التاريخ الطويل للجرائم، وستكون تركيا مسؤولة عنها أمام الحضارة الإنسانية.

* المصدر: كتاب “شهادات غربية عن الإبادة الارمنية في الإمبراطورية العثمانية” إعداد ومراجعة ودراسة: البروفيسور-الدكتور آرشاك بولاديان، دمشق – 2016 ، وثائق تاريخية عن الإبادة الأرمنية في الإمبراطورية العثمانيةـ قــتــل أمــة، مذكرات، هِنري مورغنتاو، السفير الأمريكي في تركيا بين (1913-1916) عن المذابح الأرمنية في تركيا، ترجمة: الدكتور الكسندر كشيشيان، حلب – 1991، الفصل الثاني.

1- ورد خطأ في نص الرسالة (الطائقة اليعقوبية الأرمنية… إلخ) والواقع أن الأرمن ليسوا يعقوبيين أي سريان، بل إن طقوس كنيستهم المونوفيرية شبيهة بالكنيسة اليعقوبية.

2- طائفة دينية في جنوب فرنسا أبيدت من الصليبيين ومحاكم التفتيش  الكاثوليكية_(المترجم).

3- كان السفير متوفى عندما طرد اليهود مليون فلسطيني تقريباً من فلسطين_(المترجم).

4-  الإحصائيات الدقيقة تقول: إنه قُتل مليون ونصف المليون وشرد مليون أرمني.

5- كان جميع أعضاء حزب الاتحاد والترقي تقريباً من اليهود الذين أسلموا ومن أشهرهم طلعت وجمال وأنور. هؤلاء أسلموا ظاهرياً لضرب الإمبراطورية العثمانية ودخول فلسطين من الباب العريض_(المترجم).

6- لماذا يستغرب الحكام الجدد في تركيا أن بلغاريا تطرد الأتراك من بلدها وهي التي عانت حوالي خمسمئة عام من سياسة الدمار والتتريك وبنت أهرامات من جماجم البلغار. إن البلغار إنسانيون أكثر حينما يسمحون للأتراك المهجرين بأخذ كل اللوازم معهم (انظروا إلى برامج التلفزيون التركي)_(المترجم).

7- يهجر البلغار الأتراك هذه الأيام بالقطارات والبواخر لا مشياً على الأقدام وفي الصحراء كما جرى ذلك مع الأرمن واليونانيين.

8- استقلت أرمينيا الروسية في 28 أيار 1918 وأصبحت دولة مستقلة لها كيانها الخاص_(المترجم).

Share This