«سبارتاكوس» لخاتشادوريان: الفولكلور الأرمني وثورة العبد الروماني

بالنسبة إلى الكثر من هواة الموسيقى غير المتعمقين، لم يكن الموسيقي الأرمني السوفياتي آرام خاتشادوريان سوى مؤلف قطعة واحدة كبيرة هي «رقصة السيف»، مثله في هذا مثل موريس رافيل الذي لا يكاد يعرف عنه هذا النوع من الهواة سوى أنه مؤلف «البوليرو» الشهير الذي كتب لترقص على أنغامه آيدا روبنتشتاين. لكن الحقيقة هي أن خاتشادوريان وضع طوال حياته التي امتدت على مدى الأرباع الثلاثة الأولى من القرن العشرين، عدداً كبيراً من الأعمال الموزعة بين السيمفونية والكونشرتو والباليه.

والحقيقة أيضاً هي أن «رقصة السيف» لا تشكل جزءاً من باليه «سبارتاكوس» الذي يعتبر أشهر باليه روسي كتب في القرن العشرين، بل من الباليه الآخر الكبير الذي كتبه خاتشادوريان «غايانه» هذا الباليه الذي عالج فيه، مؤلفه، موضوعاً معاصراً: حياة فلاحة الكولخوز غايانه التي تكمن مأساتها في أن زوجها قد خان وطنه السوفياتي لمصلحة المحتل النازي خلال الحرب العالمية الثانية. ومعروف أن هذا الباليه قد مكّن خاتشادوريان من أن يفوز بجائزة ستالين، على رغم وطيس الحرب، في العام 1943، وهي «تحية» ردها الموسيقي الأرمني بأحسن منها حين كتب سيمفونيته الكورالية «أغنية ستالين» التي نالت، ولا تزال، حظوة كبيرة في طول الاتحاد السوفياتي وعرضه.

وهذا كله جعل خاتشادوريان يعتبر، حتى رحيله في العام 1978، «موسيقياً أيديولوجياً» بامتياز، وهو هوجم على هذا الأساس كثيراً في الغرب. ومع هذا لم يوفر هذا الغرب نفسه آيات الإعجاب إزاء باليه «سبارتاكوس» الذي لحنه خاتشادوريان في العام 1954، وصار يعتبر منذ ذلك الحين، من الأعمال الحاضرة في شكل دائم في «ريبرتوار» «البولشوي» وغيره من المسارح السوفياتية، ولا سيما منذ قدمه في مسرح كيروف بلينينغراد (سان بطرسبرغ) العام 1956 وكان يتألف من 4 فصول و9 لوحات، قبل أن يعاد تقديمه في موسكو في شكل جديد، في العام 1959، ليصبح مؤلفاً من 3 فصول و12 لوحة، وهو الشكل النهائي الذي اتخذه منذ ذلك الحين، ونال عليه مؤلفه، هذه المرة، جائزة لينين، وهي أعلى جائزة تمنح لفنان أو مفكر في بلاد السوفيات. غير أن الأهم من هذا، كان النجاح الساحق الذي حققه الباليه، وإقبال الجمهور العريض عليه في شكل لم يتح لأي باليه مشابه له، منذ «بحيرة البجع» لتشايكوفسكي، على الأقل.

ومن الواضح أن نجاح «سبارتاكوس» يعزى في المقام الأول إلى مزاياه الفنية، وقوة التعبير الموسيقي فيه، وتمكّن خاتشادوريان لدى تلحينه من استخدام كل مخزون ذاكرته من الموسيقى الشعبية، وبخاصة من الفولكلور الأرمني القوي، الملوّن والمعبّر، الذي كان طوال حياته مصدر إلهامه. ولكن مؤكد أن البعد الإيديولوجي والبطولي في هذا الباليه كان أيضاً عنصر جذب للمشاهدين/ المستمعين، لا سيما وأن اسم سبارتاكوس قد ارتبط دائماً بفكرة الثورة على الطغاة، ورفض العبيد لواقعهم ومحاولتهم التخلص من ذلك الواقع. ونحن نعرف أن ذكرى العبد الروماني سبارتاكوس وثورته أيام الامبراطورية الرومانية، ألهمت الأحزاب الشيوعية كثيراً، وإلى درجة أن روزا لوكسمبورغ، مثلاً، أطلقت اسم «سبارتاكوس» على الحزب الشيوعي الألماني حين أسسته مع كارل ليبكنخت، وكذلك نعرف أن الشيوعيين الأرمن اللبنانيين، بقيادة ارتين مادويان سموا حزبهم «حزب سبارتاكوس» قبل أن ينضموا إلى الحزب الشيوعي اللبناني في العشرينات.

إذاً، حين كتب خاتشادوريان باليه «سبارتاكوس» بدءاً من العام 1954، أي بعد عام من رحيل ستالين، كانت الأجواء كلها مهيأة لاستقبال هذا العمل. وهو استقبال ساعدت روعة موسيقى الفنان وتلوّنها، على جعله حاراً جداً. بل حاراً إلى درجة أن خاتشادوريان سرعان ما استقل ببعض قطع الباليه، ليطلع منها، بين 1955 و1957 بمتتابعات موسيقية استعملت بذاتها وصارت تشكل، منفردة أو مندمجة، حياتها الخاصة، ومنها «صولو ايجينا» و«الفالس السريع» و«احتفال باكاناليا» وبخاصة «اداجيو سبارتاكوس وفريجيا» و«رقصة بنات قادش»… الخ.

تدور أحداث باليه «سبارتاكوس» كما يمكننا أن نفترض في أيام الامبراطورية الرومانية، ومن حول ثورة العبيد التي قادها العبد سبارتاكوس، الذي يطالعنا الطاغية كراسوس وهو يشتريه وزوجته فريجيا بعدما وقعا في الأسر بعد المعارك مع التراقيين. غير أن سبارتاكوس لم يكن من النوع الذي يرضى بهكذا مصير.

من هنا، إذ يفصل عن زوجته المحبوبة التي تقاد إلى قصر كراسوس لتضم إلى عشيقة هذا الأخير ايجينا، يبدأ التفكير بالثورة. ولاحقاً في لوحة تالية، حين يخوض عبدان مغمضي الأعين صراعاً بينهما للترفيه عن الطاغية، يجب أن ينتهي بقتل أحدهما الآخر، يتبين لنا أن العبد المنتصر في الصراع، والحزين على مصير غريمه ورفيقه في العبودية، إنما هو سبارتاكوس نفسه. وإذ ينتقل بنا المشهد إلى مهجع العبيد، يطالعنا سبارتاكوس وهو يحض رفاقه على الثورة ضد الظلم اللاحق به وبهم. فيتبعونه مقسمين على الانتصار أو الموت. الفصل الثاني يبدأ برقصة الرعاة، حيث إذ يصل العبيد الثائرون الفارّون إلى المكان يلحون على الرعاة لكي ينضموا اليهم في ثورتهم تحت قيادة سبارتاكوس فيقبلون. ويعلن القائد انه سوف لن يألو جهداً للوصول إلى الانتصار والحرية وتحرير زوجته.

وإثر ذلك، فيما يكون كراسوس محتفلاً بانتصاراته، يصل سبارتاكوس ويساعد زوجته على الفرار، بينما تسعى ايجينا جهدها للسيطرة على كراسوس الذي يبدو لنا، هو الآخر، ذا تطلعات سياسية واسعة. ووسط الاحتفالات تنتشر الأنباء بأن سبارتاكوس والعبيد الآخرين يحاصرون المكان فيبادر كراسوس وايجينا ومن معهما إلى الفرار تاركين للعبيد أمر الاهتمام بالقصر. ويكون انتصار سبارتاكوس على خصمـه الطاغية كبيراً، بل يأسره ويصارعه وينتصر عليه صارفاً إياه بدلاً من أن يقتله.

أما في الفصل التالي فإننا نجدنا أمام مؤامرة تعد من قبل كراسوس وايجينا ضد سبارتاكوس، وهما يجمعان جيشاً لجباً لتحقيق ذلك. لكن ايجينـا تريد أن تلجأ إلى الحيلة أيضاً. وهكذا تدخل ليلاً معسكر العبيد، فيما تكون فريجيا قلقة تعبّر عن ذلك القلق لزوجها الذي يطمئنها. ثم تصل الأخبار بأن الرومان يزحفون للسيطرة عليهم. وهنا يضع سبارتاكوس خطة جريئة لا يوافق عليها مساعدوه. أما ايجينا فإنها، بمساعدة الخائن هرموديوس تحضّر مجموعة من الفتيات لإلهاء جيش العبيد ما يؤدي إلى انتصار كراسوس عليهم. وينتهي ذلك كله بمصرع سبارتاكوس وبكاء فريجيا أمام جثمانه.

ولد آرام خاتشادوريان العام 1903 في تفليس (جورجيا) لأسرة أرمنية الأصل. وهو تشبّع منذ طفولته بالفولكلور الأرمني العريق. لكن ما من شيء كان يقول انه سوف يكون موسيقياً في مستقبل أيامه، خصوصاً أنه بدأ دراسته الجامعية بالتحضير لشهادة في البيولوجيا، لكننا سرعان ما نراه ينتمي إلى معهد غنيسين الموسيقي ويلتحق من بعده بدءاً من العام 1929 بكونسرفاتوار تشايكوفسكي في موسكو، حيث صار مياسكوفسكي أستاذاً له. وإذ اكتشف بروكوفييف مواهبه شجعه على خوض التأليف، بعدما كان قد برع في العزف على البيانو. وهكذا كتب الموسيقي الشاب أول أعماله المتكاملة «توكاتو للبيانو» ثم «ثلاثي مع الكلارينيت».

لكن هذين العملين لم يلفتا الأنظار إليه حقاً. لذا كان عليه أن يكتب في العام 1934 سيمفونيته الأولى المشبعة بالفولكلور الأرمني، لكي يبدأ بنيل الشهرة والاعتراف. وبعد ذلك بعامين قدم «الكونشرتو للبيانو» الذي كشف فيه عن سيطرة تامة على إبداعه الموسيقى. ولقد وفر له هذا العمل شهرة عالمية إذ قدم العام 1942 في الولايات المتحدة مع عازف البيانو ويليام كابل. وقبل ذلك كان دافيد اوستراخ قد قدم له أمام جمهور موسكو مندهش «كونشرتو الكمان» الذي، حتى وإن خلا من أي بعد ثوري، تميز بقدرة مؤلفه على الاستعانة بمخزونه الشعبي وتطويره، وهو ما سيحقق أيضاً في باليه «غايانه» في العام 1942، ثم بخاصة في باليه «سبارتاكوس» الذي سيصبح منذ انتشاره أشهر أعمال خاتشادوريان على الإطلاق.

الخميس، 28 أبريل 2011

إبراهيم العريس

الحياة

Share This