في الحبوس والمذابح والسبي وسائر الفظائع بحق الأرمن

 

في الحبوس والمذابح والسبي وسائر الفظائع

من حزيران 1915 إلى تشرين الأول

جرائم الشر والنفاق

متى أُصيب المرء بالنكبات والبلايا واحتفت به ضروب الآفات والرزايا هجره الأصحاب والإخوان وغمضوا عنه عين التؤدة والإحسان وتركوه يتقلى ويتكوى مصطبراً على المحنة والبلوى ريثما يوافيه الفرج والعزاء من رب الرحمة والجزاء. فالنصارى في ما بين النهرين لما صار شهر حزيران 1915 نبذهم أرباب الحل والعقد ومقتهم أصحاب النفوذ والحكم بحيث لم يتبق بينهم خلّ صدوق يذبُّ عن الحقوق. وكان وجهاء المسيحيين يظنون لسلامة طوبتهم وسذاجة قلبهم أنهم لن يُنكبوا بأعظم مما نكبوا ولن يُفجعوا بأكثر مما فُجعوا إلى ذلك الحين.

ولكنما لله في ذا مشيئة                                                              فيفعل فينا مايشاء ويحكم

على أننا توخينا أن نورد في هذا الفصل اسماء بعض الجناة الطغاة ونلمع بذكر شيء مما اقترفوه ليقف القواء على ما اتصلوا إليه من الكفر والنفاق.

1- رشيد الطاغية والي دياربكر

هو جرثومة الخبائث والفساد وأصل المشاغب والفتن والداعي إلى سفك الدماء وارتكاب الفظائع. عزل من لم يجاره في انجاز نياته الفاسدة كحلمي بك متصرف ماردين وقائم مقام ديركه وغيرهما وبعث الرسل إلى البلدان والقرى ليثروا العشائر ويهيجوهم على المسيحين. وافضى به النفاق إلى أن أمر بتصوير جثث القتلى النصارى وكتب تحت تلك الصور هذه العبارة الزورية »النصارى يعذبون المسلمين« ولما انجز الوظيفة على ما رام هو وأصحابه سار الى العاصمة واحتظى عند طلعت صديقه الحميم فأثنى على عمله وحبذه واستحصل له من السلطان أنواط الشرف ونصبه والياً على أنقره. وليلة وصوله إليها أمر بإحراق الولاية وكان أول من نشم في ذلك والخلاصة أن مثله كان مثل من ألقى حصاة في حوض ماء فاتسعت الدوائر وتفاقمت الأهوال.

2-الحاج زكي اللجوي

سعى في الشرّ السعي الحثيث وغدا كمحراك جهنم في التنديد بالنصارى وتعنتهم حتى نتجت له خباثته أن يتقدم إلى مشايخ العشائر في التحفز لإراقة دماء النصارى وكان شديد الحنق على السيد اغناطيوس مالويان نصح له المطران ذات المرار ليكف عن تسعير نيران الفتن في الأطراف فلم يكفّ فأولم له وليمة استعطافاً لخاطره وإطفاءً لنار سخطه فلم يقوَ عليه فراجع حلمي بك المتصرّف فاضطره إلى مغادرة البلد فخلف الحاج سعيد أخاه وزلفيقار كاتب الرديف صديقه وحمسهما على التشفي من النصارى وانقلع.

3- زلفي مبعوث دياربكر وفيضي مروّج افكاره

اصطفاهما رشيد الطاغية لاطلاعه على مكنونات صدرهما وبعثهما إلى ماردين وقراها. فسارا إلى طور عبدين والجزيرة ونصيبين والصور وأثارا العشائر وحرضاها على ذبح المسيحيين قاطبة وأطلقا لهم الحرية في نهب الأموال وسبي الحريم واقتراف كل منكر. ونقل لنا غير واحد ممن آكلهما وشاربهما أنهما قالا مراراً لمسلمي ماردين »لاتبقوا على نصراني واحد ومن لا يكمل هذا الواجب المقدس خرج من الإسلام«.

4- خليل أديب رئيس الجزاء

كان ممثل جمعية الاتحاد والترقي وأحد المنتمين إليها. وكان أنف الرجفين وعقيدهم وأوحد المأمورين في السعاية لم ترَ العين أخبث منه تحت القبة الخضراء إليه عهد رشيد الطاغية أن يجمع العسكر الاختياري ( المليس ) ويسير إلى نصيبين ومذيات وغيرهما ليدعو المشايخ إلى إهراق الدماء. وعكس على حلمي بك أمر محاماته عن حقوق المسيحيين. ولما استعفى حلمي نصبه الوالي مكانه فاستاق القافلة الأولى ليلة تنصبه وكيلاً. وأرسل إليه مطران السريان الكاثليك كتاباً ليرفعه على لسان البرق إلى الوالي في شأن اطلاق السريان فجعله دبر اذنه وحرّج المراسلة على المأمور دون معرفته. ولما ورد الأمر من دياربكر بتوقيف قافلة الرجال الثانية اخفاه لمزيد لؤمه ولم يُذعه. وأصدر الأمر بسوقهم قبل الفجر. وهو الذي سار إلى كنيسة الأرمن مستصحباً حنا صاني وفرج الله حنجو وأمرهما أن يحفراها وينبشاها لعله يعثر على مخزن الأسلحة والمدافع. يا للحماقة ويا للخباثة!! وفي زمن وكالته المنحوسة المتعوسة أحرق الجنود تل أرمن والقصور وغيرهما كما سترى.

5- بدري المتصرف

بدري هذا الغشوم عظم حجم النفاق لديه  واتسع فتق الفساد واستفحل الظلم والاستبداد. ذلك لما قلع اديب المزبور نصبه الوالي ليواصل اقتراف الشرور وكان بدري كسر الله رقبته جماعاً للذهب والفضة ميالاً إلى الخلاعة واللهو ثوى بدار اسكندر آدم واستخرج المطامير الثلاث الثمينة التي كانت مدفونة فيه. واستدعى إليه غرّا قصار وأرادها على جمع حلي السيدات الأرمنيات فجمعت ما بلغت قيمته ألفاً وخمسين ليرة ذهباً وحملتها إليه في حقيبة كبيرة فقبضها واستاق غرَّا من فوره مع سيدات دياربكر الأرمنيات فتكثر بمال النصارى واستغنى وبطر وأسرف الليالي في البذخ والسكر. وبعث إلى عبد الإمام يحرض العشائر على قتل نساء القافلة الأولى ومحق أثرهن. وأرسل ممدوحاً زميله وشريكه في النفاق إلى دير مار افرام فاختلس من الفضة والذهب شيئاً كثيراً وتقاسماه على السكت.

6-ممدوح

مازال النصارى حتى يومنا إذا فتحوا كلامهم بذكره سبُّوه ولعنوه. وإذا استعاذوا بالله من ابليس الرجيم عنوه. ركض قبحه الله في حلبات الضلال وغربل النصارى بغربال الجور والغدر والنكال وخُصّ بفظاظة الطبع وغلاظة الرقبة وامتاز بصورة شوَّهها الخالق وقبحها حتى إذا رآها الكلب نبحها. تحالف مع أصحابه الخبثاء على تقويض أركان الدين المسيحي ونسف صروحه. وعاث في ماردين وقراها عيثاً. ونكل في النصارى في السجن واستاق قافلة الرجال الأولى وقتلهم عن آخرهم تحيل على أخذ الأموال اذ كان يحوم على الذهب حوم الحدأَة على المزابل. وقضى الليالي في مسامرة النساء واقتراف المنكرات. ونقول القول الفصل أن فظائعه وقبائحه ركبت الألسن وسارت في البلاد. وما برح لعنه الله حتى يومنا حيَّاً يجول من مكان إلى مكان.

7- توفيق بك ياور رشيد

هذا اقتعده ابليس الخناس واتخذه آلة لترويج الشر والفساد وبعثه لينتهك الحريم ويسبي الذراري ويثخن في النصارى. وكانت عجرفة طباعه لا تُقاس بمقياس. حلّل المحرمات وتقلب في الأمور كما شاء طبقاً لما قيل.

اذا رزق الفتى وجهاً وقحاً                                            تقلب في الأمور كما يشاء

وهو رفيق ممدوح في أسفاره حليفه في شروره. خضب سيفه بدماء النصارى الأبرياء واختلس من الأموال شيئاً كثيراً.

8- هرون ملازم الجاندرمة

شخص إلى ماردين ظهيرة الخميس في 3 حزيران صحبة ممدوح وتوفيق المزبورين فكان ثالثة الأثافي. تفرد بالعتو والقسوة ولزم المفاسد والشنائع قدر ما سوّغت له النفس الإمارة. وهو الذي حرج على الأكراد استحياء الفتيان والفتيات في قافلة النساء الأولى فحشروهم في بالوعة عبد الإمام وخضبوا يديهم بدمائهم الطاهرة… لا جرم إن كل نفس تُوفى ماعملت.

واقتفى آثار هؤلاء حسين أفندي المفتي ومصطفى منير وحجابي وعبد الكريم الأمدي وغيرهم من المنصبّين في شؤون الحكومة.

9- عبدالقادر القومسير ومعاونه فائق وعامة البوليس

استركض القومسير ومعاونه عامة البوليس واستعجلوهم على الجولان في الدور والشوارع ليلاً ونهاراً للقبض على النصارى وخطف الأولاد والحريم واختلاس الأموال. وقد عرفنا منهم حقي وفكري وعلي قاعو وصالح الفرّوخ الذي استنزف اموال منصور قليونجي وأمتعته بأسرها واستاق امرأة منصور وحماته وأولاده وسائر آله فقتلوهم أجمع. ومنهم توفيق بابا نجيم وفؤاد الكرجيه وأخوه خلوص وأحمد ابن الحاج قاسم قاتل القس يعقوب فرجو الأرمني وبوزو الدياربكري وسعيد الميفارقيني وشاكر الجوخدار وأخوه توفيق. وحسن بك الضابط ابن الحاج علي بك الذي اختلس ماكان في غرف دير مار افرام لما كان الرهبان محبوسين في 2 آب 1915 وحيدر ابن الشيخ افندي وغيرهم. فانهم قتلوا وسبوا وتبصلوا الأموال وركبوا الفواحش قدر ما وسوس إليهم ابليس. ولكن الذي فاقهم وفاتهم هو محمد كبوشو المشهور فإن قبح منظره دل على سوء محبره. وكنت تراه اثناء الغائلة مخترطاً سيفه والسوط بيده يكبس بيتاً فبيتاً يذعر النصارى ويضربهم دون تمييز بين الكبير والصغير والرجال والحريم. اذ كان مباحاً عنده القتل وانتهاك الحريم وسفح الدماء واختلاس الأموال. وهو الذي اخترع خشبة على شكل صليب علق عليها غير واحد من المسيحيين المسجونين وجلف أظفارهم ونتف شعرهم الخ وهو الذي قتل عبد المسيح مالو ونكل بسليم بن يوسف الخوجا يونان وفتك بانطون معمارباشي وغيرهم ممن سترى اسماءهم في هذا المؤلف. وفاته ما قيل »انك ميت وانهم ميتون ثم انكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون«.

وضارع البوليس في ارتكاب المنكرات العسكر الخمسيني بلفيفهم كمحمد الملي والشيخ قاسم الأنصاري والشيخ ضاهر مأمور الحبس والشيخ نوري وشوكت بك ابن محمد سعيد آغا واخيه رضا وبشو السرَّاج وأولاده الشيخ خطاب وصادق ابن علي الترزي والحاج جلدو وقادي عمشاكي وحمدي الشرابي وخليل خلفو وغيرهم.

وحاكاهم في إلحاق الأذى بالنصارى جميع المشكوية مع أنهم هم الذين حموا عام 1895 ذمار المسيحيين وحاموا عنهم بكل جهدهم ( راجع هنا ص 60- 66 ) كفارس بن حمي الباشا وعمه عمر وواصي بن محمد سعيد آغا وياسين ابن عمته وعلي البيرقدار وعثمان ومصطي وعزيز ايو ودرويش حمو رشو وغيرهم.

ومثلهم في ذلك عامة الداشية كحسين بلالو واخويه خليل وعثمان وغيرهم وظاهاهم من المندلكانية أولاد علي معمو وعمر معمو ومحمد شريف بن فرحان وبيت قادي بكر وعزيز بن برو حسين بك وخليل أو خلّو الذي وشى بالقس حنا بنابيلي جاره فكبسه الجنود في داره واوسعوه ضرباً ورفساً واستاقوه إلى السجن وأضافوه إلى أصحاب القافلة الثانية.

وإننا نعرض عن ذكر الكثيرين من الذين عرفنا اسماءهم ووقفنا على حقيقة أفعالهم وهم الذين سدّدوا نبال الفتن وافحشوا في استنباط الحيل وبالغوا في السبي والخطف والسلب والنهب والقتل وتفننوا في اشكال التعذيب من قطع السنة وجر أسنان واظفار وشرم أنوف وآذان وبتر أعضاء ونتف شوارب ولحى وهلمَّ جرّاً. على أن ذلك يتطلب الصفحات الطوال وليس من شأننا أن ننتقد أو نعقب على فعل واحد فواحد بل غايتنا إنما هي ايراد الحوادث على حقيقتها وبسطها على علاتها ليس إلا.

على أنه مذ حضور زلفي وفيضي إلى ماردين باشر الخصوم بنيل المآرب وسارعوا إلى تأليف الجمعيات السرية في النوادي واستنباط الحيل الشيطانية لإدراك الأماني. ففغروا الأفواه ومرجوا الألسنة في الأعراض واطلقوها في الذمّ والاغتياب وكتبوا رسائل الجور والظلم ليحرفوا حكم المساكين ويسلبوا حق البائسين »لتكون الارامل مغنماً لهم وينهبوا اليتامى« (اشعيا 10) مع علمهم الوكيد أن النصارى أبرياء وأنهم ليسوا إلا كعبيد لهم أذلاء من أمس فما قبل.

وكان بعض خدمتهم النصارى يتنصتون لما يقولون ويوصلون إلينا مضمراتهم فكنا نكذبهم ونقول لهم. إن صداقتنا مع المسلمين أصفى من عين الديك ومحبتنا لهم أصلب من حديد. ومن ثم فلا يمكن أن تنقلب الصداقة إلى عداوة والرقة إلى فظاظة اذ لم يكسر بيننا عظم. وزد عليه أنه لا يوجد في بلدتنا أحد من الأرمن القحّين أو ممن قاوم الحكومة وتعرض لها فيما سلف. بل إننا والحمدلله كاثوليكيون مختضعون لأوامر الدولة قابلون لها على الرأس والعين. فلا يسوغ من ثم للحكومة أن تتعنتنا وتعتقد لنا العداوة وتعملنا بالخيانة. بل اذ وافتها الأوامر على فرض في قتلنا أو إجلائنا كتمتها ودافعت عنا وحقنت دماءنا. غير أنه لسوء الحظ خابت الآمال فصار اصدق صديق وأعزّ رفيق أَخبث خصم وأَخون عدوّ. وأمسى الخروف ذئباً والحمامة أفعى.

بناءً عليه قضيت مجالس الشورى مذ نيسان حتى سلخ أيار وجرى الاتفاق على إدارة رحى الاضطهاد على ايمة المسيحيين أولاً ثم على الوجهاء فالأفراد فالنساء فالأولاد. فتشمروا وتحزموا وراشو السهم قبل الرمي حتى اذا كان حزيران لستوسق لهم ما أحبوا فأقاموا طائفة من العسكر لحراسة البلد كي لايخرج منه أحد. ونصبوا طائفة للتنكيل وجماعة لمرافقة القوافل وحراستهم أعني ذبحهم وقوماً لإفراغ الكنائس وإخلاء البيوت.

وآخر الأمر نفضوا يدهم من المسيحيين بالمرة واصفقوا على سجنهم واطبقوا على تعذيبهم وقتلهم وتواطأوا على سحقهم ومحقهم مع أنهم إلى ذلك العهد كانوا محاليف لا يتفقون في أمر. وكتموا هذه الدسائس عن اعز الخلان وحلفوا بالمحرجات أنهم لن يبوحوا بالسر إلى أحد بل توعدوا بالقتل حالاً كل من بلَّغ النصارى كنه تلك التدابير. مهلاً يا هؤلاء اذكروا أنّ »من يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره« والسلام.

المصدر: من فصل (القصارى في نكبات النصارى، للعلامة الأب اسحق أرملة السرياني، الطبعة الأولى- 1919) الجزء الثالث، الفصل الأول، ص148-159 (7).

مقتطف من كتاب “شهود عيان عن الإبادة الأرمنية في الإمبراطورية العثمانية (مجموعة وثائق تاريخية)، إعداد وإشراف ودراسة: البروفيسور الدكتور آرشاك بولاديان، دمشق-2014، حيث ينفرد موقع “أزتاك العربي للشؤون الأرمنية” بنشر مقتطفات منه.

 

Share This