عذاب الأرمن المسجونين

 

ولما اطلق بقية رجال السريان والكلدان والبرتستان من السجن وبقي الأرمن وحدهم نشم أعداء الانسانية ينزلون بهم انواع العذابات الفادحة حتى 28 حزيران فكبس عند العصر كنيسة مار يوسف نحو ثلاثين من الجند والعملة في مجارفهم ومعاولهم وعصيهم فشاهدوا الورتبيد اسطيفان خولوزو الشيخ الوقور منزوياً يصلي فرضه فعربدوا عليه واستدعوه بسخط وغضب وقالوا له انبش الاسلحة والقنابل المطمورة في الكنيسة. فانكر عليهم الشيخ وجودها. فحملقوا فيه الابصار وقالوا له كيف يسوغ لك ان تكذب على الدولة ونحن عارفون حق المعرفة ان القنابل والمدافع مدفونة في قلب ارض هذه الكنيسة. فقال لهم بتذلل صدقوني انه لا أثر لما تقولون. فاحتدموا غيظاً وعلقوا يضربونه وينتفون لحيته البيضاء ثم اخرجوه خارج الكنيسة ونزعوا عنه رداءَه ومضوا به الى غرفته واخذوا ما كان قد بقي في صندوقي الكنيسة والفقراء من الذهب والفضة وبعد ذلك رجعوا به الى الكنيسة تكراراً. وما كاد يضع قدمه في الباب حتى دفعه احدهم بشراسة فوقع على وجهه واغمي عليه. فتركوه على تلك الصورة واستدعوا رفيقه الجليل القس يعقوب والحّوا عليه في الاقرار بمطامير الاسلحة فما تماسك الاب ان قال لهم بجرأة. “قلنا ونقول لكم الحق ان ليس عندنا اسلحة بتة. فان ديننا لا يعلمنا الكذب ابداً فأنتم ترمون إلى قتلنا لغير علة فاقتلونا عاجلاً لنخلص وتخلصوا”.

فما كان من اولئك اللئام الا ان افحشوا له في الكلام وساروا الى المذابح الثلاثة فاختسلوا أَغطيتها ولما صادفوا الشماعد الكبيرة التفتوا نحو جبرائيل نسمه الشيخ الأرمني وكان وحده اذ ذاك في الكنيسة وقالوا له: ما هذا يا رجل. فتبسم جبرائيل وقال: هذه شماعد توضع فيها الشموع وتوقد. قال القومسير: كلا. بل هي اسلحة ومدافع صغيرة. فاصدقنا المقال واوفدنا عن مخابئ القنابل والا قتلناك الساعة في مكانك. قال جبرائيل انا رجل سرياني لا معاطاة لي مع الأرمن وقد حضرت الساعة لأصلي ههنا. فجعل احدهم يشتمه اقبح شتم ويقذف من فيه النجس كل كلام بذي ضد الدين والاسرار الخ حسبما اعتاد لسانه القذر من نعومة اظفاره.

ثم صاح القومسير بالفعلة الحاملين الآت الحفر فحفروا تحت المذبح الكبير مقدار نصف ذراع. وحفروا عند المذابح والشباك الجنوبي وساروا الى طابق الكنيسة الاعلى وحفروا كثيراً ثم حفروا في الرواق الخارجي نحو ذراعين ثم دخلوا الكنيسة ثالثة وقوضوا درج المذبح وحفروا نحو ذراعين وقصدوا السكرستيا (الموفه) واستلبوا ما شاهدوا من الأطباق الفضية والذهبية وفتحوا بيت القربان واخرجوا الكاس وصعد احدهم الى درج المذبح واستل سيفه وضرب شخص مار يوسف كأَنه شلت يده يريد الانتقام منه. وكان جبرائيل نسمة واقفاً يلحظهم وهو صامت مبهوت. ولما ملوا البحث والتنقير وآيسوا انقلبوا الى منازلهم.

وفي 30 حزيران تم قرار اللجنة الشيطانية على استياق الأرمن المسجونين وذبحهم كالذين سبقوهم. فشد من بغتة قوم منهم على الكنيسة المشار اليها واغلقوا الأبواب واستلموا المفاتيح واستاقوا الكاهنين الفاضلين الى السجن واضافوهما الى اولادهما الأعزاء.

وغلس الجمعة 2 تموز نشموا كمالوف العادة يوثقونهم ويغللونهم بحنق وغيظ ثم استاقوهم شرقي المدينة وما خرجوا من الباب حتى شرعوا يقضبونهم ويجرونهم بقسوة اشد من ذي قبل ويستعجلونهم على المسير. ومن تخلف منهم لسبب ما اصابه من العذاب في السجن ثاروا به وقتلوه حالاً وألقوه في ذلك الوادي الهائل فاصبحت تلك الطريق مبذورة بالجثث. ولما بلغوا بهم على تلك الحال التاعسة الى حرّين بادر اهالي القرية الاردياء وانضموا الى العسكر الخمسيني وانهالوا عليهم بالشتم والضرب والطعن واللطم ريثما وصلوا الى دار فبادر اليهم كبار البلد ايضاً واطبقوا على اطلاق الرصاص على جماعة منهم فقتلوهم وذبحوا طائفة على افواه الابار والقوا فيها الجثث جميعها والتقفوا الألبسة والاثقال وانكفتوا الى منازلهم.

وذكر لنا ثقة عن القس يعقوب فرجو انه بعد ما قتل الكهنة تقدم اليه شاكر ابن الحاج قاسم افندي وعرض عليه الاسلامية. فسخر منه القس يعقوب وقال له. ويحك يا رجل. ما هذا الكلام البارد التفه. اسرع في قتلي والحقني برفقتي لافوز بغايتي. بادر واذبحني كي يمتزج دمي بدمائهم. فاني لا اغمض عيني حتى افتحها في السماء عندهم. على هذا المنواع قتل جميع كهنة الأرمن الافاضل ولفيف شعبهم المحبوب. وإليك اسماء اولئك الكهنة الشهداء.

الورتبيد اسطفيان حولوزو. الأب اثناسيوس بطانه. الأب يعقوب فرجو. الأب انطون احمراني. الأب ليون نزر. الأب ميناس نعمي. الأب مكرديج قليونجي. الأب اغوسطين بغدي. الأب ورطان صباغ. الأب نرسيس جرّو. الأب هاير بوغوص سنيور. الأب بولس شد خوري دارا. الأب جبرائيل قطمرجي. الأب اغناطيوس شادي.

اما الورتبيد اوهنيس بوطري كبير الخوارنة البالغ من العمر ثمانين سنة ونيفاً فإن الخصوم نفسوا به عن القتل توفية لمطامعهم فانزلوا به الوان العذاب يقررونه عما عنده وعند الجماعة من الذهب وافضى بهم الامر الى ان حبسوه في غرفة طولها خمسة اشبار في مثلها عرضاً وضيقوا عليه جدّاً حتى صاح الموت. ثم استحصلوا منه مقدار مائتي ليرة ذهباً ومضوا به الى دار السيد اغناطيوس مالويان فاستمر فيها حتى 15 تموز فاستاقوه مع قافلة النساء الاولى وقتلوه.

وتشاغل اعداء الدين والانسانية مذ ذاك الى 15 تموز في الفتك بنصارى القرى المجاورة. ولم يفتروا من البحث عن الاسلحة حتى انهم في رابع تموز ارسلوا بعض العملة الى ديرمار افرام فاخذوا كمية من الشموع الى مقبرة الأرمن المعروفة بالتلول فحفروا يوماً صحيحاً كاملاً ولم يعثروا على شيء البتة. ولعمري انهم لو وجدوا قطعة واحدة او كما يقول العامة طقطوقة صغيرة عند المسيحيين لمحقوا كاثليك المدينة واجتثوهم قاطبة.

المصدر: من فصل (القصارى في نكبات النصارى، للعلامة الأب اسحق أرملة السرياني، الطبعة الأولى- 1919) الجزء الثالث، الفصل السابع عشر، ص237-241 (9).

مقتطف من كتاب “شهود عيان عن الإبادة الأرمنية في الإمبراطورية العثمانية (مجموعة وثائق تاريخية)، إعداد وإشراف ودراسة: البروفيسور الدكتور آرشاك بولاديان، دمشق-2014، حيث ينفرد موقع “أزتاك العربي للشؤون الأرمنية” بنشر مقتطفات منه.

Share This