معاملة الأرمن في الإمبراطورية العثمانية في عامي 1915-1916 (2)

وهكذا فإن بذور “الإصلاحات الأرمنية” لم تلق أرضاً صالحة، إلا في عقل عبد الحميد، حيث استقرت وترعرعت وكان من نتائجها “مجازر الأرمن”، ولم يكن المشروع في حقيقته تهديداً للسيادة العثمانية ووحدتها. فقد كان مجرد مشروع من المزمع تطبيقه في ست ولايات فقط، تلك كانت هي المرحلة الأولى من “التحسينات” التي كانت الإمبراطورية بأمس الحاجة إليها، والتي من دونها لم يكن بوسعها الشروع في تنمية قوتها الداخلية، ولكن الأمر كان بالنسبة لعبد الحميد لا يغتفر، لأن كل تنازل لإحدى القوميات المسيحية من رعايا الإمبراطورية، كان أمراً مشكوكاً فيه بالنسبة إليه. فقد رأى كيف منحت تركيا استقلالاً كنسياً ذاتياً للبلغار عام 1870، التي جعلها الروس خلال ثماني سنوات ولاية تتمتع بشبه استقلال سياسي، وقد تحاشى الروس الاستقلال الذاتي الأرمني في الوقت الحاضر، إلا أن المقارنة تظل قائمة، لأن تأثير الروس على الأرمن كان آخذاً بالتزايد.

وكانت روسيا قد احتلت المقاطعات الأرمنية التابعة لإيران عام 1828[1]، وأسفر ذلك عن ضمها دير ايتشميادزين (Etchmiadzin) في مقاطعة يريفان التي كانت مقر كاثوليكوس عموم الأرمن. وكانت سلطة هذا الكاثوليكوس معلقة في ذلك الوقت، وكان جثليقاً اكليريكياً بعد زوال المملكة الأرمنية المتحدة القديمة الممتدة من ديكران إلى درطاد منذ ألف وأربعمئة عام. وكان هناك كاثوليكوس آخر في سيس، وهو جثليق مملكة كيليكيا في العصور الوسطى الذي لم يعترف بسيادته، وقد حجبه البطريرك الأرمني في القسطنطينية الذي كان الرئيس الرسمي للملة الأرمنية في الإمبراطورية العثمانية، – التي كانت آنذاك الأغلبية الساحقة من الشعب الأرمني، إلا أن الدبلوماسية الروسية نجحت في إحياء سلطة كاثوليكوس ايتشميادزين. وفي الأربعينيات من القرن التاسع عشر عندما بلغ النفوذ الروسي أوجه في القسطنطينية، وعندما بدا لتركيا أن الحماية الروسية هي الملاذ الوحيد للتصدي لطموحات محمد علي، فقد تركزت دعائم السيادة الكنسية لايتشميادزين على القسطنطينية وسيس، وأصبح كاثوليكوس ايتشميادزين ومقره في المناطق الروسية كاثوليكوساً فعلياً، كما أصبح رئيساً اسمياً للكنيسة الجيورجية بكاملها، وهكذا أصبح لروسيا نفوذ على الأرمن كأمة، وكان الأرمن يكتسبون تأثيراً متبادلاً في روسيا، إذ تبوّؤوا مراكز رفيعة الشأن في التجارة والخدمات العامة والجيش، وقد برزوا بصورة خاصة في حرب 1877، إذ كان لوريس مليكوف ولازاريف ودير غوكاسيف، ثلاثة من أبرز الجنرالات الروس، وهم من الأرمن، وكان مليكوف قد استولى على حصن كارس، كما رسخت معاهدة برلين حيازة الروس للأراضي التي احتلها مليكوف مع بقعة ضمت المناطق التي كانت فارس، قد تنازلت عنها قبل خمسين عاماً.

وهكذا فقد تقدمت الجبهة الروسية حتى وصلت إلى النجد الأرمني، وأصبحت تضم الآن قسماً كبيراً من السكان الأرمن، وكان ذلك من الأهمية بمكان، بحيث تركت طابعاً مهماً على الحياة العامة في الإمبراطورية الروسية[2]، كما أخذت تلعب دور نقطة التجمع بالنسبة للأرمن في الطرف العثماني.

وقد فاقت هذه الاعتبارات كل شيء في ذهن عبد الحميد، فقد توصل إلى أنه يجب أن يفقد رعاياه الأرمن حيويتهم المثيرة للمخاوف، وقرر سحقهم عن طريق تقوية الأكراد الذين بدأ يشجعهم على استجابة القانون منذ عام 1878. وفي عام 1891 أخذ يسيء إلى سمعة السلطان محمود ويشهّر به، ووجد زعماء القبائل الأكراد محاباة عند السلطان، ومنحهم الرتب العسكرية وزيّن صدورهم بالنياشين، وتطوعت قبائلهم، وانضمت إلى كتائب الخيالة في الجيش الإقليمي، ومنحوا رتباً عسكرية وبنادق حديثة من مخازن الحكومة، وكان ذلك لقاء إطلاق يدهم في استغلال وضعهم الرسمي وأسلحتهم ضد جيرانهم الأرمن، وفي أثناء ذلك جرّد الأرمن من السلاح، ولم يكن أمامهم فرصة سوى تشكيل جمعيات ثورية سرية، وهذا ما وافق خطط عبد الحميد، لأن ذلك كان من شأنه أن يؤدي إلى قيام صراع عرقي، وبدأت الاضطرابات عام 1893 برفع لافتات تدعو إلى الثورة في كل من يوزغات وميرزيفون، وسرعان ما تبع ذلك حدوث انشقاق بين المسلمين والمسيحيين في أقاليم موش وصاصون، فأرسلت الحكومة قوات مكثفة، كانت تتألف معظمها من جنود من أكراد الحميدية، إضافة إلى عدد قليل من الجنود الأتراك. وتمت محاصرة صاصون لعدة أشهر حتى سقطت عام 1894. وقد أثار قيام الأكراد والأتراك بذبح سكان صاصون – رجالاً ونساء وأطفالاً – اهتمام بريطانيا العظمى. وفي شتاء 1894 – 1895 تمكنت بريطانيا العظمى من إقناع كل من فرنسا وروسيا بالانضمام إليها، لتذكير الحكومة العثمانية بتعهدها بإدخال إصلاحات إقليمية. وفي الربيع تقدمت الدول الثلاث ببرنامج قوي لإدارة الأقاليم الستة، وكان هذا البرنامج يعتبر في شكله النهائي روتينياً، وتقدمت الحكومة التركية في عام 1895 بمشروع مقابل، تعلن فيه عن عزمها في تطبيقه بدلاً من المشروع الأول، إلا أنه بقي مشروعاً وهمياً، ولكنها بدأت قبل ذلك ببضعة أيام السلسلة الأولى من المجازر المنظمة في طرابزون، ثم امتدت خلال الأشهر القليلة التالية لتشمل المدن الرئيسة الواحدة تلو الأخرى في الإمبراطورية. وقد ارتكبت جميع هذه الفظائع تقريباً ضد سكان مدنيين آمنين غير مسلحين، وكانت زيتون هي المدينة الوحيدة التي أبدت مقاومة، وتمكنت من الصمود في وجه الجيش التركي مدة ستة أشهر، ثم أعلن العفو عن سكانها نتيجة تدخل الدول الكبرى، وكانت جميع الأعمال التي ارتكبت ضد الأرمن نتيجة تحريض الحكومة المركزية وتحت إشرافها، وتوجت هذه الأعمال المجزرة الكبرى في القسطنطينية في آب 1896، حيث قتل الأرمن على مدى يومين بإيعاز من الحكومة التركية بصورة عشوائية ومن دون تمييز في الشوارع، حتى بلغ عدد القتلى عدة آلاف. ثم تدخل عبد الحميد، وكان يراقب الشعور العام داخل البلاد وخارجها، وعلم أنه كان عليه أن يكفَّ عن ذلك[3]، وقد قتل أكثر من مئة ألف رجل وامرأة وطفل، وتمكن من شل حركة الأرمن في إمبراطوريته.

ومع ذلك، فقد كانت هذه السياسة الماكيافيلية عديمة الجدوى تماماً، بقدر ما كانت شريرة وخبيثة، وانخفض عدد السكان الأرمن في تركيا بعد ذلك، بسبب المجازر وأعمال الطرد إلى خارج البلاد. إلا أن ذلك أضعف الإمبراطورية من دون أن يشل قوة الشعب الأرمني تماماً، إذ تمكن المهاجرون الأرمن من ضرب جذور جديدة في الولايات المتحدة وفي القوقاز الروسية، وحصلوا على موارد جديدة، وضموا إلى صفوفهم متعاطفين جدداً لقضيتهم. وكانت روسيا المستفيد الرئيس من كل ذلك، ولم يكن لدى الأرمن في ذلك الوقت سبب رئيس للتوجه نحو روسيا بعطف أو أمل خاص. ففي روسيا، ومثلما جرى في تركيا، أعقبت حرب 1877-1878 ردة فعل سياسية، تفاقمت نتيجة اغتيال القيصر ألكسندر الثاني عام 1881، واعتبرت الشرطة الروسية الأرمن متمردين، نظراً لأنهم كانوا عنصراً نشيطاً وذكياً وتقدمياً في الإمبراطورية الروسية، لذا تعرضوا لبطشها.

ولكن بالرغم من ذلك، كانت حياة الأرمني وأملاكه على الأقل في مأمن من جانب الروس، كما كان واثقاً من أنه سيحصد ثمرة أعماله، ولم يكن يخشى الموت المفاجئ في الشوارع، وخلال ربع القرن الذي أعقب معاهدة برلين، ازداد عدد السكان الأرمن في المقاطعات الروسية، وعاشوا في ازدهار ورخاء، وأصبحت تأتيهم أفواج متلاحقة من اللاجئين الأرمن من تركيا بعد المجازر، وأخذ مركز ثقل الشعب الأرمني ينتقل من الأراضي العثمانية إلى الأراضي الروسية. وهكذا جنت روسيا فوائد كبرى نتيجة الجرائم التي ارتكبها جيرانها، وقد استمر نظام عبد الحميد من 1878 إلى 1908 في توسيع الهوة بين الدولة العثمانية والشعب الأرمني، ومع ذلك فإن فترة الثلاثين عاماً من القمع لم تدخل اليأس في قلوب الأرمن، فقد كانوا يأملون بتحقيق الإصلاحات العثمانية – ولايوجد شيء أدل على سلوك الأرمن، مثلما حدث عام 1908 عندما أطاحت الثورة التي قادتها جمعية الاتحاد والترقي بعبد الحميد، وظهر في الأفق احتمال إصلاح الإمبراطورية والحفاظ عليها من الأتراك أنفسهم، وخلال هذه الأزمة أظهرت الشعوب المختلفة من رعايا الإمبراطورية موقفها الحقيقي، فقد وقف الأكراد إلى جانب عبد الحميد نظراً، لأنهم كانوا يتمتعون بمزايا عظيمة في عهده. أما الشعوب المقدونية (اليونان والبلغار والصرب) الذين كانوا من بين الضحايا الرئيسيين مثل الأرمن في عهود الظلم، فقد أبدت ترحيباً ظاهرياً بالدستور، وبدأت تحضر سراً للاضطرابات، لأنها كانت ترغب في التحرر من الدولة العثمانية، إذ رأت في إصلاحات الإمبراطورية عائقاً يحول من دون الانفصال عنها، وأجرت مشاورات مع مواطنيها في دولهم المستقلة في كل من صربيا وبلغاريا واليونان، وبعد أربع سنوات هاجمت عصبة البلقان تركيا، وانتزعت منها المناطق المقدونية بالقوة.

ومن الناحية الأخرى، فقد رحب الأرمن بالنظام الجديد، وارتموا في أحضانه، وعندما أعيد نشر الدستور العثماني، تخلت الأحزاب السياسية الأرمنية عن برنامجها الثوري لمصلحة البرلمان، وتعاونت في البرلمان مع الاتحاديين نظراً لبقاء سياستهم حرة أو ديمقراطية إلى درجة ما، ولكن المجازر الرهيبة التي حدثت في أضنة بعد أقل من عام من إعلان الدستور، كانت السبب في خمود حماسة الأرمن (على الرغم من عدم وجود دليل قاطع على ضلوع الاتحاديين فيها في البداية مثلما اتضح فيما بعد). ومع ذلك فقد أظهروا ولاءهم في عام 1912 عندما كان الأتراك يقاتلون من أجل وجودهم، وأصبحت الخدمة العسكرية وفق القوانين الجديدة تشمل المسيحيين بعد أن كانت تقتصر على المسلمين فقط في الإمبراطورية. وكانت حملة البلقان التي صحبها كثير من الويلات، الفرصة الأولى التي أتيحت للجنود الأرمن للاشتراك في معركة للدفاع عن إرثهم المشترك، وأبلوا بلاءً حسناً، حيث أثنى عليهم قادتهم الأتراك.

وهكذا فقد عمل الأرمن من أجل إنقاذ الإمبراطورية العثمانية في السلم والحرب، وفي الجيش والبرلمان، منذ أن تسلم الاتحاديون سدة الحكم عام 1908، حتى دخولهم الحرب العالمية عام 1914، وبذلك يصبح من المستحيل مجاراة الرأي الذي يدعيه الأتراك، بأن الأرمن أخذوا يتحولون في سياستهم عام 1914، وشرعوا بالتآمر على تدمير الإمبراطورية العثمانية.

المصدر مختارات من بعض الكتابات التاريخية حول إبادة الأرمن عام 1915، ترجمة: خالد الجبيلي، اللاذقية – 1995)- شهادة أرنولد ج. توينبي). مقتطف من كتاب (شهادات غربية عن الإبادة الارمنية في الإمبراطورية العثمانية)، إعداد ومراجعة ودراسة: البروفيسور-الدكتور آرشاك بولاديان، دمشق – 2016.

1- بدأت روسيا تضم الأراضي الواقعة جنوب القوقاز في بداية القرن التاسع عشر عندما تنازل آخر ملوك جورجيا عن مملكته إلى القيصر وذلك لإنقاذ بلاده من الوقوع في أيدي الأتراك أو الفرس.

2-  أصبحت تفليس (Tiflis) –العاصمة السابقة لمملكة جورجيا والتي كانت المركز الإداري للأقاليم الروسية للقوقاز– مدينة أرمنية من الناحية العملية خلال القرن التاسع عشر، وامتدت منها المستوطنات الأرمنية حتى داخل روسيا.

3- على الرغم من أن الحكومة البريطانية كانت الحكومة الوحيدة التي حاولت ممارسة الضغط على الأتراك ليكفوا عن ارتكاب مجازرهم. فقد كانت تسري مقولة في ألمانيا مفادها أن بريطانيا هي التي أوحت بفكرة المجازر من أجل تحقيق غرض سياسي. وبعد ذلك بفترة وجيزة أرسل الإمبراطور الألماني صورته إلى عبد الحميد كهدية إطراء.

Share This