عملية الاستيلاء على قرية خوجالي


“الضحية الأولى عند اندلاع حرب هي الحقيقة”. هذه الكلمات التي أدلى بها عضو في مجلس الشيوخ الأميركي عقب الحرب العالمية الأولى تنسحب أيضاً على حرب كاراباخ، وبشكل خاصّ على خوجالي. ما حدث بالفعل أثناء عملية الإسكان الآذرية الثانية والأوسع في كاراباخ الجبلية، وفي خوجالي والمناطق المتاخمة لها يومي 25-26 شباط 1992، حين هرب المدنيون إلى اغدام عبر الممر الذي هيأته لهم قوات كاراباغ، يظل إحدى المسائل الأكثر غموضاً وإِثارة للجدل في حرب كاراباخ. مع ذلك، هناك على الأقل أمران واضحان وهما أن قوات كاراباخ تركت ممراً، وان المدنيين تعرّضوا لألوان العذاب ووقعت المأساة.

في 1994، عندما سأل الصّحافي الروسي اندريه كارولوف، وكان ضيفاً على البرنامج التلفزيوني “لحظة الحقيقة”، روبرت كوتشريان رئيس لجنة الدفاع عن كاراباخ الجبلية يومذاك، حول مأساة خوجالي، أجاب “أود أن أضع مقابل هذه المأساة مجموعة من المآسي الأخرى التي قد تتجاوز مأساة خوجالي من حيث الأهمية. إنهما مجزرتا سومغايت وباكو، وإخلاء 28 قرية أرمنية من سكانها ومأساة قرية ماراغا”.

وأضاف كوتشريان: “لكن خوجالي تقتضي، ظاهرياً، شرحاً مفصلاً، أي انها كانت القرية التي وجدت نفسها في معترك العمليات العسكرية. وكما رأيت، فإنّ الأطراف المتقاتلة كانت عليها أن تتخذ جانب الحيطة والحذر عند استخدام التجمّعات البشرية لأغراض عسكرية. وهذا بالضبط ما حدث في خوجالي. كان ثمّة أربع قاذفات قنابل غراد متمركزة داخل القرية، تطلق نيرانها بصورة منتظمة على ستيبانكرت، وعندما يتحول موضع ما موقعاً لإطلاق صواريخ الغراد، فإنّه بالطبع يجتذب نيران العدوّ، لذا برز في خوجالي وضع جديد، حيث جرت معارك ضارية للتمركز فيها، وهذا ما أدى إلى معاناة المدنيين ألوان العذاب إبان تلك المعارك”.

ولما سأل الصّحافي البريطاني توماس ده فال، سرج سركيسيان أن يخبره عن عملية الاستيلاء على خوجالي، أجاب وزير الدفاع الأرمني: “نفضل عدم الكلام عليها بصوت عال”. وألح سركيسيان أن أموراً كثيرة بولغ في شأنها، كما هي الحال بالنسبة إلى حجم الخسائر، وان الآذريين المتقهقرين أبدوا مقاومة عسكرية شديدة. وقال سركيسيان: “لكني أعتقد أن المسألة الرئيسية كانت مختلفة كل الاختلاف. قبل خوجالي، ظن الآذريون أن في وسعهم أن يمازحونا، وظنّوا أيضاً ان الأرمن عاجزون عن رفع أيديهم على المدنيين. أما نحن فكنّا قادرين على تحطيم هذه الصّورة التقليدية، وهذا ما جرى فعلاً. كذلك ينبغي أن نأخذ في الاعتبار ان هناك من هربوا من مجزرتي باكو وسومغايت”.

“أود أن أضع مقابل هذه المأساة مجموعة من المآسي الأخرى التي قد تتجاوز مأساة خوجالي من حيث الأهمية. إنّها مجزرتا سومغايت وباكو، وإخلاء 28 قرية أرمنية من سكانها، ومأساة قرية مراغا”.

ولتعزيز صدقية المزاعم التي تدّعي ان قوات كاراباخ فتحت نيرانها من دون مداراة من قرية ناخيتشفانيك الأرمنية على المدنيين الفارين وعلى فصيلة آذرية خاصّة معنية بمواكبتهم، ذكر توماس ده فال ما أدلى به رئيس الشرطة فاليري بابايان للمراسل الصّحفي الأميركي بول كوين-جادج. لقد عبّر بابايان عن وجهة النّظر القائلة ان السبب الرئيسي لهذه الأحداث يكمن في الأخذ بثأر شخصي، وان العديد من المشاركين في الهجوم على خوجالي “كانوا من سومغايت ومن مواقع أخرى شبيهة بها”.

أما صامويل بابايان الذي تواجد في قلب الأحداث، فكان له تفسير آخر مختلف تمام الإختلاف. يقول: “كنت، أثناء عملية خوجالي، مكلفاً الحفاظ على جبهة اغدام وتأمين ممر آمن على امتداد مجرى النهر، بحيث يتمكن المدنيون من الخروج. إني أنجزت تلك المهمّة، فتأمن فعلاً الممر، لكن شيئاً غريباً وقع. لقد هوجمنا من جهة اغدام. وكان من المفترض أن يجتاز السكان عبر مواقعنا ويدخلوا اغدام. وساد انطباع بين القوات الآذرية المرابطة في اغدام ان الأرمن يقومون بدعابة، ولجأت القوات الآذرية إلى توسل العنف، عن قصد أو غير قصد، لست أدري. إلا اننا لم نحاول تدمير السكان. وكنّا، على العموم، نسمح دائماً للمدنيين، أثناء الحرب، أن يغادروا المكان. وكان في مقدورنا قطع الطرق وإبادة 60000 نسمة في كلباجار. غير انّنا تعمدّنا إرجاء العمليات العسكرية وأمّنا ممراً حراً. وكان الطريق الذي سلكناه دفعة واحدة تحت سيطرتنا في عام 1994”.

وثبتت من المصادر الآذرية الادّعاءات بأن قوات كاراباخ أخطرت، خلال أيام متلاحقة، المدنيين في خوجالي بضرورة الرّحيل، وبأنها أمنت لهذه الغاية ممراً لهم.

وتالياً شكا سلمان عباسوف المقيم في خوجالي يقول: “قبل بضعة أيام من وقوع تلك الأحداث المأسوية. حذَّرَنا الأرمن مرّات عديدة عبر الراديو من أنهم يخططون للاستيلاء على المدينة وحثونا على مغادرتها. وراحت المروحيات لفترات طويلة تحلّق في سماء خوجالي ولم يكن جلياً ما إذا كان أحدهم مهتماً بمصيرنا. واقع الأمر انّنا لمن نتلقَّ أي معونة، إضافة إلى ذلك ألقي في روعنا، عندما سنحت الفرصة لإخلاء النساء والأطفال والشيوخ، ألاّ نغادر المكان”.
وفي أوائل ربيع 2005، زار المراسل الصحفي عين الله فتح اللاييف خوجالي. وكتب، بعد عودته إلى باكو مقالاً عنوانه: “لديهم وقت لمساعدة الماشية وليس لمساعدة البشر”. “قبل سنوات عديدة، قابلت لاجئين فروا من خوجالي ولجأوا مؤقتاً إلى نفطلان. إنهم أخبروني بصريح العبارة ان الأرمن قبل الهجوم ببضعة أيام حذّروا السكان باستمرار عبر مكبرات الصّوت من عملية وشيكة، وطلبوا من المدنيين مغادرة المدينة المطوقة عبر الممر الإنساني الممتد بمحاذاة نهر كركر. وفقاً للاجئين الخوجاليين، فإنّهم استعملوا الممر، ولم يطلق الجنود الأرمن المرابطون في الضفة البعيدة النار عليهم. وكان بعض الجنود المنتمين إلى مفرزة الجبهة الشعبية قد أخلوا، لأسباب مجهولة، بعض المقيمين في خوجالي باتّجاه ناخيتشفانيك التي كانت تحت سيطرة فوج اسكران الأرمنية”.
واستطاع المراسل، بمساعدة الإدارة المحلية في اسكران، أن يأْلف المنطقة ويسير عبر المساحات التي مر بها سكان خوجالي. فكتب فتح اللاييف: “بعدما أَلِفْتُ جغرافية المنطقة، أستطيع القول جازماً ان ادعاءات عدم توافر ممر لا أساس لها من الصحة. الحقيقة انه كان هناك ممر، وإِلا لما استطاع سكان خوجالي، المطوّقون تماماً والمفصولون عن العالم الخارجيّ، كسر الطّوق والخروج منه. لأسباب مجهولة، تم توجيه بعض سكان خوجالي صوب ناخيتشفانيك. يبدو أن مفارز الجبهة الشعبية لم تهدف من وراء ذلك إلى إنقاذ سكان خوجالي، بل إلى ارتكاب مجزرة أثناء المسير، الغرض منه خلع مطاليبوف”.

وأثناء مقابلة أجرتها المراسلة التشيكيّة دانا مازالوفا مع الرئيس الآذري عياذ مطاليبوف، بعد شهر على حصول مأساة خوجالي، طرحت عليه السؤال التّالي: “ما الّذي تود أن تقوله بصدد أحداث خوجالي، التي قدمت استقالتك عقب وقوعها؟ وكان، في حينه، قد تم العثور على جثث أناس من خوجالي بجوار اغدام. وتبيّن ان أحدهم سبق أن أطلق الرصاص على سيقانهم ليحول دون فرارهم، ثم عمد إلى قتلهم. وفي 29 شباط، صوّرهم زملائي وفي 2 آذار حين صورناهم فيما بعد، كانت هذه الجثث قد سلخت رؤوسها. فأي نوع من لعبة غريبة هو هذا؟” ثمّ قال مطاليبوف: “لقد دُبّرتْ كل تلك الأمور، على حد قول سكان خوجالي الذين جرى إنقاذهم، لتهيئة الأرضية الصالحة لحثي على الاستقالة. أنا لا أعتقد أن يكون الأرمن، الذين أبدوا تفهماً واضحاً وعميقاً لمثل هذه الأوضاع، قد سمحوا للآذريين بالحصول على دليل قاطع دفعهم إلى ارتكاب أعمال فاشستية”.

“يبدو أن مفارز الجبهة الشعبية لم تهدف من وراء ذلك إلى إنقاذ سكان خوجالي، بل إلى ارتكاب مجزرة أثناء المسير، الغرض منه خلع مطاليبوف”.

“وإذا ما صرّحتُ بأن المعارضة الآذرية هي التي أخطأت. فقد أُلام عندئذ بتهمة القدح والذم. إلاّ أن المشهد العام للنتائج هو على النحو الآتي: كان الأرمن، في كل الأحوال، أمنوا ممراً يتيح للمدنيين أن يهربوا. لماذا إذن سيطلقون النار؟ وفضلاً عن ذلك، هل كان آنذاك على مقربة من اغدام قوة كافية مستعدة لمساعدة الشعب؟ أم انهم اكتفوا بالموافقة على رحيل المدنيين… إن مفرزة اغدام كانت متموضعة في الجوار وملزمة بتتبع تطور الأحداث بشكل جاد. وما إن طوقت خوجالي بالدبابات حتى بات ضرورياً توجيه المدنيين خارجاً. وكنت من قبل أصدرت أوامر مماثلة في شأن شوشي – من أجل إجلاء النساء والأطفال وإبقاء الرجال وحدهم في المدينة. إنه قانون من قوانين الحرب – ينبغي إنقاذ المدنيين. وتصرفت على نحو ملائم لا لبس فيه – فأصدرت أوامر مماثلة، لكن لماذا لم يتم تنفيذها في خوجالي؟ إنه لأمر غامض بالنسبة إلي””، اضاف مطاليبوف.

وفي السنوات التّالية، ما انفك مطاليبوف يلح ببعض التصويب، ان الأرمن تركوا ممراً ليستخدمه المدنيون عند الرحيل.
“وفي مساء 25 شباط، نقل إلي توفيق كريموف، الوزير السابق للداخلية، ما جرى من أحداث، لكن من دون ذكر تفاصيل. قال أن بضع مئات من الناس سقطوا قتلى في خوجالي نفسها. وكان أول ما فعلته حينها هو الاتصال هاتفياً بزعيم كاراباخ الجبلية، المدعو مكرديتشيان. أنا لم أكن أعرفه ولا كنت رأيته قط، لكن عرفت اسمه. فسألته والغضب يتملكني كيف يمكن قتل ما يقارب ألف مدني في خوجالي. فأجاب بالحرف الواحد على النحو الآتي: شيء غير معقول! لم نقتل أحداً في خوجالي. عندما استولينا على خوجالي، كان سكانها قد غادروها لتوهم، ما إن فتحنا ممراً لهم. غير ان بعض السكان ما زالوا هناك، يقيمون في مبنى المدرسة المهنية. لقد أطعمناهم، رغم أننا نشكو من قلة الطعام”. لم أصدقه وطلبت منه استدعاء أرمين ايساكولوف الذي كان رئيس قسم الشرطة في حينه ليحادثني هاتفياً. فأبلغني هو أيضاً انهم هيأوا ممراً للسكان. ولهذا عندما وافقتُ حينها على إجراء مقابلة، قلت اني أُبلغت بأن ممراً قد فُتح للمدنيين، إلاّ أني لم أؤكد ماإذا كان الممر قد هيئ فعلاً أم لا. إني اكتفيت بالإشارة إلى واقعة الحديث الهاتفي… ولاحقاً قال مطاليبوف: “بالمناسبة، لقد كُتب بالأبيض والأسود في التقرير المعدّ من قبل مركز نصب حقوق الإنسان التذكاري ان المن محمدوف تم إبلاغه شخصياً بتأمين الممر”.

بعد انقضاء أيام على المأساة، أفاد عمدة خوجالي المن محمدوف، “لقد علمنا أن الممر جرى تأمينه لتمكين المدنيين من الرحيل”.

المصدر: خوجالي: لحظة الحقيقة، بقلم طاطول هاكوبيان، مقتطفات من كتاب طاطول هاكوبيان أخضر وأسود: يوميات ارتساخ، في شأن أحداث 25-26 شباط 1992 في خوجالي

Share This