مقالات قصة ماري أشكيان (1)

ما إن وصلت الى بيتها في قرية “باغجاغاز” (الشجرة) حتى أرسلت العمة “أوهان”، زوجة “ميناس الأحول” خبراً الى “موفسيس” ابن “روبيرت أشك” تطلب رؤيته على الفور لأمر هام. كان “موفسيس” على وشك الانتهاء من خياطة “صندل” بين يديه. كان عليه إنهاؤه وتسليمه لصاحبه في الصباح التالي. فقد أتى صاحبه مرات عديدة من قرية “كوركونيه” (الربوة) وكل مرة كان يقول له “تعال غداً” ويعيد “كربوش” فارغ الأيدي. كان سينهي الحذاء وها هي العمة ترسل له الخبر العاجل، وما عليه إلا أن يذهب.

كانت العمة “أوهان” عائدة من حلب، وقد ذهبت الى هناك من أجل عملية في العين. وفي الطريق، فكر “موفسيس” بالسبب الذي اضطر تلك السيدة لطلبه، فحاول عدة مرات مساءلة “إدوارد” الطيّان الذي جاء بالخبر:

– وما أدراني، يا بني. لقد أوصتني العمة “أوهان” عشرين مرة، مئة مرة أن تذهب إليها. لكن لا أدري ماذا تريد. اذهب أنت، وستعلمك هي. وما دخلي أنا، أنا لا أعرف شيئاً، اذهب، أسرع.

وضع “موفسيس” الصندل من يده ومضى. وعلى الطريق طلب من “هوفانيس أغباش” بأن يخبر عائلته أنه سيتأخر، فالعمة “أوهان” طلبته.

وعندما وصل الى بيت العمة “أوهان” كان الليل قد أسدل الستار، فما إن وصلت المرأة الى البيت حتى أرسلت خلف “موفسيس”.

– الحمد لله على سلامتك، كيف حال عينك؟

– جيد، يا بني. رأيته، كان ينام في غرفتي.

– مَن رأيتي أيتها العمة؟

– مَن، مَن. عمتك ماري كانت تنام في غرفتي.

قال صانع الأحذية الشاب: – عمتي ماري ؟

– بلى، بلى. ورأيت ابنها أيضاً، “الله الوكيل”، فكأنه توأم “أسادور” ابن عمتك “ليديا”. فبشرته مثل “أسادور” بيضاء وشعره أشقر، طوله وضحكته…

– ماذا تقولين يا عمة “أوهان”، عمن تتحدثين؟

– عمن أتحدث؟ عن عمتك “ماري” التي فقدت في سفر برلك. وكانت في سن العاشرة من عمرها. كم كانت فتاة جميلة. يا حرام يا “ماري”. رأيتها بعد أربعين عاماً، وكأنها نفس الفتاة “ماري”، مع تقدم في السن. كانت نائمة في غرفتي في مستشفى “جيبيجيان”، وكان ابنها يزورها فالتقيت به عدة مرات وكنت أشبهه لشخص لا أدري لمن.

– أيتها العمة، أنا لا أفهم شيئاً.

– طبعاً، أنتم الجيل الجديد ماذا تفهمون؟ يا بني، عمتك اسمها “ماري” فقدت أيام التهجير، وأنا رأيتها. وقالت لي أنها ابنة “موسى أشك” جدك. كانت تنام في غرفتي، وهي زوجة شيخ عربي يدعى الشيخ الحاج. وعمتك ماري روت لي كل شيء، وشرحت مكان بيتكم وقالت أنه يقع عند المنحدر وعلى اليسار وثم منحدر آخر ومرتفع الى اليسار، وقالت “كان بيتنا هناك على تلة صغيرة “. وشرحت أيضاً أنهم كانوا يجهزون المعصرة تحت شجرة الغار. وجدك “بانوس”، اغفر لي يا رب، هو جد والدك، كان يصّنع الدبس. كان جدك، “موسى بن عائلة أشك” رجلاً عظيماً، ذهب الى العسكرية ولم يعد. الله يعاقب الأتراك. وها أنت تحمل اسم جدك “موسى” ..

– حسناً، ماذا كنت تقولين الآن،  أين هي عمتي، أين تعيش؟

– يا بني، عندما كانت تحكي لي القصة دخل ابنها الذي يشبه “أسادور” ونظر الى أمه وإلي، وحوّل نظراته من أمه عليّ، ونادى على الممرضة وخاطبها ثم أخذ أمه. لقد تضايقت كثيراً. وهي صمتت فوراً حينما دخل ابنها وقطعت القصة كالسكين حتى أنها لم تتجرأ النظر نحوي. تلك المسكينة، كم كانت تشبه عمتك “ليديا”. وفي اليوم التالي، أخذوني الى العملية وعندما استفقت سألت الممرضة عن عمتك ماري قالت “لا أدري” ومضت. لكني أعتقد أنها تعرف الكثير.

– أنا ذاهب يا عمتي “أوهان”. سأذهب الى حلب بعد يوم أو يومين لنرى ماذا سيجري.

– أستغفر الله، إن كنت في مكانك لذهبت في الصباح الباكر. أنتم الجيل الجديد، شبان وشابات، فاسدون، لم تر شيئاً. أنتم تبحثون عن أفراحكم. اذهب، اذهب، ليحكي لك والدك وجدتك. لا تضيع الوقت، اذهب.

وعند المساء، وفي الظلام الدامس، تقدم “موفسيس” بصعوبة على الطريق. لقد أربكه ما قالته العمة “أوهان” من أخبار متقطعة. أين هي عمته ماري؟ زوجة مَن هي؟ ما اسم الشاب الذي يشبه “أسادور”؟ لم يكن والده يحكي له شيئاً عما جرى لهم، حتى الجدة “سارا” لم تكن تحكي الكثير، كانت تتأثر عند الحديث ولا تكمله. فقد ترّملت أثناء الحرب، وفقدت ابنتها “ماري” التي لا مثيل لها.

كان الليل قد انتصف عندما وصل “موفسيس” الى البيت ، فكان والده نائماً أما “سارا” وأمه فكانتا مستيقظتين.

– أين كنت يا بني؟ تأخرت، الى أين ذهبت في هذا الليل المظلم. كان عليك أن تأتي الى البيت وتأكل عشاءك ثم تذهب أينما تريد، التأخر ليس جيداً.

– يا جدتي “سارا”، احكي لي الآن قصتكم من البداية حتى النهاية.

– أستغفر الله، ماذا تريد من العجوز بعد منتصف الليل؟ اذهبوا للنوم، طوال هذه الفترة لم تسأل شيئاً، ماذا جرى لعقلك؟

– عندما كنت أسأل جدتي كانت عيناها تغرورقان بالدموع، فلم تكن تحكي شيئاً، أما الآن فستحكي. لقد أتت العمة “أوهان” من حلب و ..

– العمة “أوهان”، أوه، وكيف حالها، وحال عينها ؟

– صحة العمة “أوهان” جيدة جداً، ذهبت ورأيتها، وها أنا عائد من عندها.

– أستغفر الله، وماذا كنت تفعل عندها، في ذلك المكان النائي ؟

– لقد أرسلت تطلب رؤتيتي. يا جدتي، العمة “أوهان” رأت العمة “ماري”.

تيقظت العجوز وقفزت من مكانها وصرخت: – مااااري ؟ ابنتي ماري؟

– نعم جدتي، رأتها في المستشفى. وابنها يشبه “أسادور”.

– ماااري؟ ابنتي التي لا مثيل لها. آه، أربعون عاماً ولم أرَ فلذة كبدي، وقطعة من قلبي.. أين ابنتي. خذني إليها لأراها. خذني الآن..

– أين سآخذك الآن؟ أنا لا أعرف مكانها.

– العمة “أوهان” ..

– هي أيضاً لا تعرف، احكي لي قصتك.. وبعدها..

كانت العجوز “سارا” تلعن فقط الأتراك الذين قتلوا زوجها الشاب في جيشهم. أما هم فتم تهجيرهم وترحيلهم .. فكانت تلك السنوات مرعبة، وكان فقدان “ماري” ذات العشر سنوات الأمر الأكثر فزعاً، لو علمت بموتها لكانت تصالحت مع الموت ولكنهم اختطفوها. وبعد أن صمتت قليلاً، واستجمعت أفكارها بدأت العجوز تروي قصتها:

– يا بني “موسى” “موفسيس”، كان جدك “موسى” رجلاً كالباشاوات، كنا قد تزوجنا منذ إحدى عشر عاماً، وكان زوجي المسكين يعمل اليوم بطوله فيحرث ويزرع ويحصد، كنا نجمع التين والعنب في الصيف ونطبخ رب البندورة. وفي الخريف، كان الجد “بانوس” حماي يحضّر المعصرة وكنا نجهز الدبس لمدة اسبوع. كانت الباحة تغدو بيتاً للأفراح في ذلك الاسبوع، فالشباب يصطادون العصافير، فكل مساء تقام الأفراح والرقص والغناء حتى الصباح. آه، الجد “بانوس”. كان له ثلاثة أولاد، صبيان وبنت. ابنه البكر “نشان” رفض أن يكون جندياً عند العثمانيين فهرب الى أمريكا، وزوجي “موسى” له بيت وعائلة لم يرغب بالذهاب. وبعد ذلك، عندما أتوا لجمع الشبان حتى سن الأربعين لم يأبهوا إن كانوا متزوجين أم لا. أين كان سيهرب “موسى”، ففكر أن يلتحق بالجيش، وثم يهرب. وكان يكرر: “هذه الحرب لا تشبه الحروب الأخرى يا زوجتي. سآتي لآخذكم لاحقاً”.

– عندما نزل “موسى” على الدرج، ظلت عيناه تحدقان الى الخلف، كان ينظر إلي والى أولاده ووالده ووالدته بعيون مليئة. كان يعلم أن من يذهب الى هذه الحرب لن يعود. كان الضباط ينتظرون فلا يستطيع التهرب. يا ليته هرب من “نشان”. وكنت أنا أبكي دائماً، لم أرغب أن يهرب ويترك عائلته في مسؤوليتي.

– ومضى، بالأحرى أخذوا “موسى”، وبعد عدة أشهر وصل الخبر الأسود. الله يعاقب الأتراك، الله يوقعهم في البلية. قتل “موسى” ولم نعرف أين. أخبرنا جنود فارّون .. وبعد مرور شهر على الخبر وكنا ما زلنا في الحداد عندما أتى أمر للذهاب الى سفر برلك. وأهلنا في كسب كانوا يذهبون قرية بعد قرية.. وعندما وصل دورنا أخذنا معنا ما استطعنا. فحملت ماري وروبيرت أغراضاً على ظهريهما بقدر وزنهما. أما الصغيرة “ليديا” ذات الثلاث سنوات، كنا نحملها، وكيف لها أن تسير. سرنا مدة أيام وأسابيع، الى أين يأخذنا الأتراك الكلاب، الله وحده يعلم. أدرج الجد “بانوس” مفتاح البيت في كمر البنطال وكان كل يوم يخرجه وينظر اليه.. متى سنعود الى البيت..

وبعد عدة أيام، ربما بعد اسبوع أو اسبوعين، وصلنا الى بازار عش الذباب جسر الشغور. كنا تعبين وجياعاً ومنهكين، لم نستطع حمل “ليديا”، ولم نكن نتمكن من السير دون حمولة. اقترح الجد “بانوس” أن نسلم “ليديا” الى العرب في جسر الشغور. فهناك من فعل ذات الشيء. عارضت الفكرة، فكيف أترك فلذة كبدي للغريب، وبدأت أبكي وأصرخ..

– أيتها العروس، سنعود بعد أسابيع قليلة، بعد شهر أو شهرين على الأكثر. نعود ونأخذ الطفلة، الى متى ستطول هذه الحرب التي دامت أصلاً مدة عام واحد.

سلمتُ البنت للجد “بانوس” دون أن أقتنع. وقام هو بتسليم ابنتي “ليديا” لعائلة عربية، فأقسم هؤلاء أن يعيدوها عند عودتنا. “سنرعاها محبة بالله، والفتاة لكم عندما تعودون تأخذونها. الله يجازي العثماني ويعاقب هؤلاء الكفرة “.

لن أطيل عليك، سرنا طويلاً وهجِّر الكثير من أهل كسب نحو الجنوب، نحو حماة وحمص. ونحن تم تهجيرنا نحو الشرق، نحو دير الزور. وكل مَن كان وصل الى هناك لم يكن يعود.

اقتربنا من حلب واعتقدنا أننا ندخل المدينة، فكنا منهكين في الصحراء والكل كان مريضاً والشمس قد أحرقتنا يا بني. كان فصل الصيف قد مضى لكن الشمس بقيت تحرقنا بلا رحمة. أخبرنا الجد “بانوس” أنهم لن يدخلونا المدينة، إذاً سيأخذوننا الى دير الزور؟ وبدأت التوسلات والابتهالات. وأخيراً تمكنا من الحصول على الموافقة لدخول المدينة. لم تكن تلك المدينة في وسط الصحراء مكاناً حسناً للإقامة، ولكن على الأقل، لن نبقى في العراء. وقد احتشد هناك الكثير من الأرمن، بأنواعهم المتعددة. كلهم بؤساء ومرضى، فالموت على الطرقات بات أمراً عادياً. بالرغم من ذلك البؤس الشديد لم يرغب الناس بالابتعاد عن المكان، فكانوا يقولون إن الموت متربصٌ أبعدَ من حلب. فكانت مسكنة ودير الوزر أماكن مفزعة.

وما إن وصلنا الى المدينة وفي أحد الأيام وفي وضح النهار حتى أتى أناس عرب وجروا العمة “ماري” وأخذوها معهم. يا إلهي، ليت عيوني عميت كي لا أرى ابنتي بتلك الحالة. ليت أذناي صمَّت كي لا أسمع صراخها وهي تناديني “يامو يامو”. ما زال صوت فلذة كبدي في أذني حتى اليوم وهي تتوسل وتتضرع. لم أستطع فعل أي شيء، والجد “بانوس” لم يكن هناك. وماذا كان سيفعل لو كان هناك. فقد أخذها هؤلاء الوحوش، لقد أعطينا “ليديا” وهم أخذوا “ماري” من بين أيدينا. والآن، أين هي ماري، ليتني أراها ولو لمرة واحدة قبل مماتي.

كان “موفسيس” صامتاً . لقد نفد كاز المصباح وهو يبكي بصمت في الظلام..

أخذوا ابنتي “ماري”، فما حاجتنا للحياة بعدها، إلا أني كنت أنتظرها كل يوم، كي تعود ابنتي الغالية. كنت أعيش من أجل ابنتي، وهل تلك هي الحياة؟ خذني، خذني معك يا بني، امنحني الفرصة كي ألقي نظرة واحدة فقط، وثم لا يهم ما قد يحصل لي.

– يا جدتي “سارا”، سأذهب أنا في الأول لأجدها، الى أين ستذهبين الآن؟

– اعثر عليها وأحضرها معك. تسلم لي روحك، أحضرها، كي أرى ابنتي “ماري” التي لا مثيل لها. ليتني أرى ابنتي الغالية قبل أن أذهب الى القبر.

– حسناً، حسناً، سأذهب بعد يومين. سأنتهي من الأعمال بيدي، وأسلم الأغراض لأصحابها ثم أمضي.

– بعد كم يوم؟ متى تذهب؟

كان هذا “روبيرت” الذي استفاق من نومه. لقد كان يجلس مع “باخوس” (آلهة الخمر) كل ليلة ويشرب لينسى معاناته في الماضي. لم يكن يستيقظ أبداً في الليل، كان يبقى نائماً حتى الصباح، أما اليوم فقد استيقظ على القصة التي روتها أمه، فهو أيضاُ عاش تلك الأحداث.

– بعد يومين، يا أبتي، ما إن أنهي أعمالي. فعندي عدة صنادل في القوالب، سأنتهي منها وأذهب الى حلب.

الآن، بعد قليل، ما إن يطلع النهار تمضي في طريقك الى تلك المدينة الشيطانية حلب. أنت ستذهب بالباص، أما في الماضي فعائلتنا وصلت الى تلك المدينة الشيطانية سيراً على الأقدام.

ماذا عساه أن يفعل “موفسيس”، ليس بوسعه البقاء غير مبالٍ أمام شوق جدته وجده وتجاه عمته التي ظهرت من جديد. ففي الصباح الباكر، ما إن شق النور طريقه، انتهى من صندل “كربوش” ومضى الى الكراج..

– يا أبي، تعال معي..

– لا أريد حتى أن أسمع باسم تلك المدينة، يا “موسى”. لقد تسولت هناك وتعرضت للكثير من المذلات، لا أريد أن أسمع باسم تلك المدينة. اذهب أنت واستفهم ، ولا تعد فارغ الأيدي..

– يا أبي، ألم تبقى أنت في ميتم؟

– ميتم؟ ميتم.. تلك قصة أخرى. في أحد الأيام، سمع الجد “بانوس” أنه يوجد ميتم خارج حلب، وأنهم سيأتون لجمع الأطفال وأخذهم الى الميتم، قيل له بأن الذين يذهبون الى هناك سيعيشون حياة ملوك، وقيل أنهم سيعطون الصبية الأرمن الصغار المأكل والملبس وأسّرة نظيفة. فقرروا أن أذهب الى هناك.

المصدر: شـهادة مدى الحياة”، كيفورك أبيليان، ترجمة د. نورا أريسيان، 2006 ، لبنان.

Share This