مقالات قصة ماري أشكيان (2)

وبعد عدة أيام، أتوا بالعربة لجمع الصبية الصغار وأخذونا خارج المدينة، فالبقاء فيها يعني الموت وعلى الأقل ستكون حياتنا مؤمنة في الميتم. أخذونا ولا أذكر الآن عدد العربات، كانت عربتنا الأخيرة وكانت مليئة حتى التخمة. أعطونا بعض الطعام قبل الانطلاق، وسرنا ومضينا مدة يومين. كلما ابتعدنا كلما كانت الصحراء تغدو جافة أكثر. الى أين يأخذوننا، ما نوع ذلك الميتم؟

وفي اليوم التالي، ظهرت على الطريق جثة عيونها مغمضة تقريباً، كان الرجل ينظر إلينا ويشير بيده الى رقبته كناية عن الذبح. إنه كذلك، كانوا يأخذوننا ليذبحونا. وبعد نصف ساعة، انزلقت من العربة وعدت الى حلب. من السهل أن أقول أني عدت، يا بني، سهل جداً، ودام وصولي الى المدينة مدة اسبوع. من المعجزة أنني بقيت حياً. وعندما وصلت، كنت جلدة على عظمة. واستطعت العثور على أهلي لمعرفتي بالمدينة. كم كانت فرحة أمي كبيرة، وكذلك فرح الجميع. في أيام المجازر والجوع تلك، كان من الممكن أن يفرح المرء أحياناً.

– وبعد ؟..

– يا بني، استمريت في التسول، وأحياناً كنت أعمل حمالاً وآخذ الأغراض من السوق الى بيت فلان وعلان، وأكسب بعض البرغوتات، وفي بعض الأحيان كنت أعمل ولا يعطوني أجرتي. صحيح أننا استطعنا أن نبقى أحياء في تلك المدينة إلا أنهم كانوا يصفعوننا بعار كوننا مهاجرين .

وتدخلت العجوز “سارا” قائلة: – يا بني، في تلك الأيام، عندما كان الجوع والأمراض على اختلافها تضرب بالناس وتكمل أفعال الأتراك، كان القس “إيسكيجيان” يساعد الكثيرين كالملاك. آه، كان القس راعي قريتنا، وقد انتقل الى حلب قبل التهجير بعامين. الله يبقي روحه في النور، لقد ساعدنا الرجل بما فيه الكفاية. لقد ساعد الكثيرين، وأنقذ كثيرين من الذهاب الى دير الزور. لقد ساعد أهل كسب كثيراً على الأخص أهل قرية “إيكيزأولوخ” (النبعين) و”كوركونيه” (النبعة). كان راعي هاتين القريتين، وهنا تم تنصيبه. لم تتمكن القريتان التفاهم، فإحداها تريد أن تنصبه في قريتها والأخرى تصر أن تنصبه في قريتها. وفي النهاية اتفقتا أن تنصبه تحت شجرة التين الكبيرة. آه على تلك الأيام.

– ذلك الرجل الذي أنقذ الآلاف مرض ومات. ذلك الرجل النشيط وفي سن الشباب.

– كيف عدتم.

– لن أطيل عليك، يا بني، فأنت ستذهب في الصباح الباكر لعند عمتك “ماري”. هنيئاً لك، ستكون أنت أول من يراها. آه، مرت أربعون سنة منذ ذلك اليوم الذي جروا فيه ابنتي وأخذوها. ما زال صوت بكائها وتوسلها في أذني. كيف عاشت ابنتي الغالية فترة الأربعين عاماً.

– وكيف وجدتم عمتي “ليديا” وأعدتموها؟

– عدنا الى كسب. وكانت العودة أسهل، وكان الناس يريدون العودة الى بيوتهم في أسرع وقت. وكأنه تدبير من الله، كان الناس يسرعون الى قراهم الأصلية وهم يغنون ويصيحون. كانت المجموعة تكبر شيئاً فشيئاً على طول الطريق، فكان الأحياء منهم يتجمعون من هنا وهناك. أما الأموات فكانوا أكثر. فكل حي يقابله اثنان من الموتى أو المفقودين. كانت “ماري” مفقودة ولكني لم أعلم أنها على قيد الحياة. والآن، يقولون أن ابنتي على قيد الحياة. يا الله، ما زلت تصنع المعجزات، هبني أن أرى ابنتي ومن بعدها لا يهم إن مت.

– يا جدتي، كيف وجدتم عمتي “ليديا”.

– عندما وصلنا الى هنا أخبرونا أن “ليديا” بقيت في جسر الشغور. وعند العودة لم نجدها. قلت لعمك “عيسى” من عائلة “أشك” أن يحضر “ليديا”. ولم يضطرني أن أكرر طلبي، الله يباركه، ذهب واستفهم، وبعد مدة طويلة عثر على الفتاة التي صار عمرها ثماني-تسع سنوات. والعائلة التي أبقت “ليديا” عندها لم تكن موجودة، فقد وجد ابنتي عند امرأة أخرى سوداء تلعن “ليديا” وتقول: “يحرم عليها الخبز الذي أكلته هذه الفتاة، أنا أعلمها الرقص طوال هذه السنين وهي لا تفقه الرقص بشكل جيد، يحرم عليها الخبز الذي أطعمتها”. يتعرف “عيسى” على الفتاة، فكانت ابنتي ببشرتها البيضاء تعيش عند تلك الزنجية، والتي كانت راقصة في الشوارع وقد أرادت أن تجعل ابنتي راقصة مغناج. لاحق “عيسى” تلك الامرأة و”ليديا” مدة يومين، وثم استغل الفرصة ونجح في تهريب ابنتي ولكن كانت قد تعرّبت. وقد رفضت أن تأتي مع “عيسى”، إيه، كانت في سن الثالثة فقط عندما تركناها عند باب الغرباء. صرخت ونادت كي ينقذوها من ذلك الشخص “الغريب” حتى أنه عضّت أذنه ولكن “عيسى” ينجح بأن يجلبها الى هنا. واجهنا صعوبات جمة حتى اعتادت الفتاة على لغتنا وعاداتنا. إيه، الله يجازي الأتراك، ولكن انهض يا بني ونم ساعة أو ساعتين. في الغد اذهب واعثر على ابنتي “ماري” الغالية ذات الشعر الأشقر..

* * *

وفي الصباح الباكر وبعد أن أنهى “موسى” صندل “كربوش” أسرع الى الكراج ووصل الى حلب في المساء. وفي اليوم التالي، عثر على المستشفى والدكتور جيبيجيان الذي استقبله بحفاوة، فطبيب العيون المعروف كان يعتبر نفسه من قرية “إيكيزأولوخ” (النبعين). وقد بنى لنفسه بيتاً صيفياً خارج القرية فوق قمة التلة حيث يبدأ منحدر “ميغراتسور” (وادي العسل) وكان يذهب الى هناك للاستجمام حينما تسنح له الفرصة.

وبعد أن استمع الى قصة “موفسيس” هز رئيس الأطباء رأسه. نعم، قبل عدة أيام أتت مريضة عربية من أجل عملية في العين ولكن أقرباؤها أخذوها دون العملية. وكان قد سمع من العمة “أوهان” أن تلك المرأة بينت أنها من “النبعين” وعلم أنها أحضرت من المدينة الصغيرة المجاورة لحلب والتي تدعى “سراقب”. وهو الذي تعرف على قصص كثيرة حول الأرمن المفقودين وساهم في لقاء الكثيرين منهم، الآن، طلب الحذر من الشاب وهو يعطي اسم تلك المدينة. إن إعادة السيدة دون عملية يعني أنهم لا يريدون كشف هويتها.. فبعد أربعين عاماً ما زال مختطفو “ماري” يحسبون ألف حساب.. يجب أخذ الحيطة.

وجد “موفسيس” أنه من الضروري قصد “هايك توتيكيان” الذي يقربهم وهو من نفس قريته، ومستقر في حلب منذ زمن طويل، وله بيت وعائلة وصاحب معمل لصناعة الكراسي، فالكراسي التي يصنعها من الخشب والقنب مشهورة في أرجاء سوريا.

استقبله “هايك” بسرور واستمع الى قصته، فلقد سمع الكثير من هذه القصص، لكن هذه القصة أثارته كثيراً لأن “ماري” كانت من سنه وكانا رفاق لعب. تأثر وتشجع لما سمعه وهو أيضاً احترس من التحرك. فالذين اختطفوا بنات أرمنيات في حينه وتزوجوا منهن فبطبيعة الحال سيحذرون ويرتابون، ويرفضون أن تلتقي زوجاتهن بأقربائهن وأهلهن. لكنهما عزما على الذهاب الى سراقب.

واستطاعا الذهاب الى تلك المدينة بعد يومين، وانطلق “هايك” و”موفسيس” وهما في حالة قلق وأمل. لم تكن سراقب تبعد عن حلب بكثير، كانت مركزاً لانتاج مشتقات الحليب ومشهورة بصناعة الهيطلية التي تحضر بالحليب، لكن “هايك” لا يفكر بذلك في ذلك اليوم، كان عليه أن يجد “ماري” بأي ثمن.

لم يكن إيجاد بيت الشيخ الحاج أمراً صعباً، فبيته كبير ويعتبر قصراً في المدينة، ومنح الضيوف استقبالاً على الطريقة العربية فقدم لهم الخادم القهوة العربية المرّة بأقداح بدوية. وكانت “القهوة المرّة” تحضَّر بمراسم طويلة عريضة في كوب كبير. وهي ترمز للضيافة.

وبعد القهوة تقدموا نحو قاعة استقبال الشيخ الحج، وكانت مجهَّزة من جهة بأثاث شرقي ومن جهة أخرى بأثاث ذي طابع حديث. فالكراسي التي يصنعها “هايك” أخذت حيزاً واسعاً في القاعة. كان الحاج يجلس متربع الأرجل في واجهة القاعة. وقد وضعت ركوات القهوة البدوية حول المنقل. استقبل الحاج الضيوف واقفاً بحرارة وأجلسهم الى يمينه، وذلك شرف كبير لهم. وعندما علم الحاج أن الضيف الأكبر في السن هو نفسه “هايك” الذي يصنع الكراسي مدح ذلك الأرمني. وفي أثناء ذلك، دخل الى القاعة أحد أبناء الحاج.

همس “موفسيس” على مسامع ” هايك”: – انظر يا عمو، كم يشبه “أسادور”. كأنه توأم “أسادور” ابن عمتي “ليديا”.

– على مهلك، لا تتسرع.

بدأ “هايك” المعتاد على التقاليد العربية بمقدمة والتف على الموضوع، ثم شرح هدف زيارتهما. كان الشاب الذي يشبه “أسادور” عابساً ويتابع حديث “هايك” بعيون مهددة.

وبعد أن سمع الشيخ قصة “هايك” بصبر شرح له بنفس الالتفافة أنه كان سيتشرف بهم لو كان صهرهم حسب رواية الضيوف.

–  وماذا عن ابنك، الله يحميه، كم يشبه ابن عمة قريبي هذا.

–  الله يصنع المعجزات دائماً، يا عزيزي معلم هايك. يمكن المرء أن يشبه غيره، سبحان الله، لا أدري كيف ولد ابني هذا أشقر، لكني لم أر تلك المرأة التي تصفونها في حياتي ولم أسمع عنها. أليس كذلك يا شباب.

وأومأ الشباب الجالسين هناك بالموافقة بالاجماع. بدأ “هايك” يقلق، فليس بالإمكان إطالة هذا اللقاء.

– يا نظمي، لكي تقنع هؤلاء الخواجات، اذهب وأحضر والدتك. أنا والله العظيم أحترم هؤلاء الناس لكن أريدهم أن يقتنعوا بأن قريبتهم ليست زوجتي، أستغفر الله .

وبعد قليل، دخل نظمي وخلفه سيدة.

– انظروا يا خواجات، هذه هي زوجتي. رغم أن ديننا يسمح بتعدد الزوجات، إلا أني تزوجت من امرأة واحدة، هذه هي زوجتي وهي نور عيني ومعبودتي. ونظمي هو ابن هذه الامرأة. الحمد لله زوجتي وفية جداً وأنا أحب والدة ابني كثيراً.

كانت “والدة” نظمي تقف أمام الضيوف بخزي وهي تغطي فمها بوشاح رقيق. كانت بشرتها سمراء تميل الى السواد، حتى أن الخالق نفسه لن يتمكن أن يصنع معجزة ويهبها أن تكون والدة نظمي.

ليس من الحكمة البقاء أكثر هناك، يجب الابتعاد على الفور. ودّع الشيخ الحاج “المعلم العزيز” هايك ومرافقه وهو يكرر “بأمان الله، بأمان الله”.

– فلأكون يهودياً أو كردياً، إن كانت تلك الزنجية والدة نظمي. اذهب يا بني، “لن تحصل على زبدة من ذلك الحليب”، لا تتعب نفسك عبثاً، عمتك هنا ولكن من المستحيل أن نجدها.

انطلق “موفسيس” على طريق القرية وهو فاقد الأمل، فكان “نظمي” فعلاً نسخة طبق الأصل من “أسادور” كما وصفته العمة “أوهان”. الله يشهد والسماء والأرض تشهد أن نظمي هو ابن عمته الأخرى، لكن ماذا يمكنه أن يرد على الجدة “سارا”، التي كانت تنتظر عودة “موفسيس” بالدموع وبفارغ الصبر كي تستخبر عن “ماري” الغالية. بعد أربعين عاماً ها هي “ماري” تختطف منها مرة أخرى..

دخل “موفسيس” مطأطئ الرأس، وهو مضطرب من عدم صبر الأهل. فدون أن تسأل شيئاً، انكمشت العجوز “سارا” في إحدى زوايا الاسطوح المنخفض خارج نافذة قاعة الضيوف. فبعد المجازر ومنذ تلك الأيام، حيث كان صراخ ابنتها قد ثقب آذنيها، ها هي الآن تعيش مأساتها الكبيرة والحديثة .

سأل “روبيرت” بعيون ضبابية: – ماذا جرى، هل رأيت “ماري” ؟

– كلا لم أرها، أعلم أنها هناك ولكني لم أرها. لم يكشفوها لي. كان ذلك الخسيس الذي يشبه “أسادور” سيأكلني ويأكل عمو “هايك” بعيونه .. الخسيس، إنه من لحمها ودمها لكنه يكرهها، لماذا؟

* * *

بعد عدة أشهر، دخل جندي من الجيش السوري محل “موفسيس”, لتصليح نعل حذائه. كانت رائحة عرقه لا تحتمل، لكن لا يعقل رفضه. وعندما كان “موفسيس” يعمل سأل الشاب من أين يأتي. فأجابه الجندي أنه يأتي من سراقب.. سراقب ؟ .. هذا عنوان عمته “ماري”.

– هل تعرف الشيخ الحاج؟

– من لم يسمع بالشيخ الحاج. إنه رجل ذو نفوذ كبير. أوه، ليس من السهل القول الشيخ الحاج، فله ثلاثة زوجات، وأنا أيضاً عندما أنتهي من خدمة العلم سأتزوج ثلاث زوجات..

– هنيئاً لك.

– ماذا إذاً، فالحياة لا معنى لها دون الزوجة. والرجل يجب أن يكون له ثلاث أو أربع زوجات، لكي يتمتع بالحياة.

وكيف لهذا الشاب المسكين أن يتزوج ثلاث زوجات، يبدو من مظهره أنه من طبقة فقيرة، ولكنه حسب التقاليد السائدة في منطقته يحلم أن يخلق الجنة الدنيوية الخاصة به مع عدة زوجات.

– قلت لي أنك تعرف الشيخ الحاج، أليس كذلك؟

– من لا يعرفه. لا يوجد في سراقب رجل ثري وقوي مثله.

– هل تستطيع مساعدتي كي أتقرب منه؟

– مساعدتك؟ طبعاً. آخذك إليه مباشرة، وأفعل ما تريد. آخذك عند الشيخ الحاج أو الى مكان آخر على حد سواء.

 كانت هذه آخر محاولة لـ “موفسيس”، سيذهب الى الرجل ويبحث عن عمته “ماري”. دون أن يفكر كثيراً وافق أن يذهب مع ذلك الجندي الى سراقب. هذه المرة، أخذ “موفسيس” معه “أسادور” ابن عمته “ليديا” الذي يشبه نظمي. فليكذب نظمي هذه المرة أيضاً إن استطاع.

وبعد اسبوع كان الجندي سيذهب في عطلته، فانضم إليه “موفسيس” و”أسادور”. كان الجندي يقسم أنه سيأخذهما ويجد العمة “ماري” بنفسه.

فكر “أسادور” و”موفسيس” بخطة يقنعان فيها الحاج ونظمي. وعلى الفور استعاضا تلك الخطة بغيرها. طلب “موفسيس” من “أسادور” أن يضبط نفسه ولا يقصد الضرب.

كلما كانوا يقتبرون من سراقب كان حماس الجندي يتناقص وفي نهاية الأمر، أبدى أنه قد سمع فقط عن الشيخ الحاج. وأما شيخ قريته يعرف جيداً ذلك الرجل القوي ويمكن أن يساعدهم. لكن الجندي الشاب كان يؤكد لهما أنه سيتم العثور على “عمتو مريم”.

وتذكر “موفسيس” ما قاله عمو “هايك”: “لن تحصل على زبدة من ذلك الحليب”.

وبعد أن سمع شيخ القرية قصة “موفسيس” من البداية حتى النهاية قال: “يا بني، أنت ورفيقك المعلم “هايك” محظوظان جداً. ليس من السهل قصد الشيخ الحاج لأمر مشابه، يا ابني. الحمد لله أنكما خرجتما من بيته سالمين غانمين. فبعد أربعين عاماً، ما فائدة البحث عن “عمتو” أو “خالتو”. فالحاج رجل مريع، ويخاف على زوجته الأرمنية كثيراً، أما ابن تلك المرأة نظمي، فيا إلهي، هو رجل فظيع بقدر فظاعة والده. اذهب يا بني، اقنع جدتك أن تنسى ابنتها. لن يفيدكم شيئاً أن تضعوا أنفسكم وعمتكم في خطر بعد أربعين عاماً.

* * *

زودني بالمعلومات عن ماري “موفسيس أشكيان” ابن “روبيرت” الذي يعيش الآن في كندا.

المصدر: شـهادة مدى الحياة”، كيفورك أبيليان، ترجمة د. نورا أريسيان، 2006 ، لبنان.

Share This