قصة “إن لم يكن هؤلاء أيتاماً، من هم إذاً” للكاتب كيفورك أبيليان

أتى “كارو” مع أولاده الاثنين ويرافقه قريب له من قرية “كانغال” في مدينة “سيباسديا” وطرق باب “بيت الشباب الأرمني” التابع لـ “كيديك باشا” وهو يمر بأحد شوارع “استنبول”. كان هذا في الستينات.

 كان “كارو” قد وصل من “كانغال” الى “استنبول” قبل يومين. وكانت الرحلة متعبة الى درجة كبيرة، فالعرق والغبار والمواد المستفرغة جعلوا المكان غير محتمل، وما إن وصل الى “استنبول” قصد بيت أحد الأقرباء. وعلى الفور طلب هذا الأخير أن تحمم السيدة الولدين الصغار بحمام ساخن.

فعارض “كارو” قائلاً: – لا، هذان الولدان سيبقيان هكذا. إنهما يتيمان، أتيا من “سيباسديا”. غداً صباحاً نأخذهما ونسلمهما للأفندي، فليستحمان هناك ويحصلان على الملابس.

– وكيف يكونون أيتاماً؟ أليسوا أولادك؟ وزوجتك أليست حية؟

– ولو كان. إنهما أيتام، أيتام، “أيتام أولاد أيتام”. وستقول أنت ذات الشيء غداً لـ”كيديك باشا”. إنهما أيتام، أيتام.

لم يناقش القريب الرجل غريب الأطوار، لأن من غير الممكن مناقشة “كارو” الكانغالي، إنه رجل عنيد، ويفعل ما يقول، لكن هناك غموض ما في إصرار هذا الرجل. على كل حال، فضّل أن يصمت.

وسار اليتيمان في الشارع ولاحظ الأكبر “ميناس” جريدة أرمنية، إنه عدد قديم من جريدة “مرمرا” اليومية وقد رميت على الأرض وبدأت تصفر وتتطاير مع رياح الخريف الخفيفة هنا وهناك. ركض “ميناس” خلف الجريدة ورفعها وقرَّبها من فمه وثم جبينه. وبعد ذلك، جلبها الى أخيه “هوفانيس” قائلاً:

– يا “هوفانيس”، انظر، كتاب مقدس، كتاب مقدس.

قبّل “هوفانيس” العدد القديم من “مرمرا” ورفعه الى  جبينه.

اندهش قريبهم مما يجري، ونظر الى “كارو” باستغراب، ما هذا السر ؟

فأومأ “كارو” بجفاف: – أرأيت، أرأيت، أليس هذا يتماً؟

فكانت معرفة أولاده في “كانغال” تلك الزاوية البعيدة والنائية في “سيباسديا” بالنسبة لتبعيتهم تصل الى هذا الحد فقط. فالشيء الوحيد الذي كان يربطهم بأرمنيتهم كان كتاباً مقدساً قديماً في زاوية البيت الذي كان أمراً مقدساً بالنسبة لأفراد العائلة فيقومون بتقبيله بالدور ويرفعونه الى جبينهم في الصباح والمساء. الى هذا الحد، فلا “كارو” ولا زوجته ولا أولاده يعرفون قراءة اللغة الأرمنية .

كان الأولاد مندهشين الآن، هل يعقل أن ترمى الكتابة الأرمنية “الكتاب المقدس” على الأرض، ما هذا التدنيس يا الله؟

وفي مكان أبعد بقليل، هناك “تدنيس” آخر، هناك “كتاب مقدس” آخر على الأرض هجم عليه الأولاد وقبلوه ورفعوه الى جبينهم، وها هو “تدنيس” آخر وآخر..

لم يتمكن الأولاد من جمع كل “الكتب المقدسة” المرمية على الأرض وتقبيلها. كم هم مدنسون أهالي استنبول، إنهم يرمون الكتب المقدسة على الأرض. وبعد تقبيل العديد العديد من “الكتب المقدسة” أخيراً وصلت المجموعة أمام باب “بيت الشباب الأرمني”.

كان مدير “البيت” “هرانت كوزيليان” يستقبل القادمين ويدبر أمرهم كي يبقى الولدان رغم معارضتهما، لأن “الكوكتيل” الذي تشكل من رائحة عرقهم ووسخهم كان غير محتمل. في أثناء ذلك، وضع “هرانت” مصنفات الأولاد على المكتب، فالرسالة التي أرسلها “محمود الدمرجي” من “كانغال” كانت تفسّر كل شيء. بعد أن توفي والدهم منذ زمن بعيد أخذ عمهم “كارو” مسؤولية العناية بهم. كان قد حُكم على الأولاد الضياع في المدينة التي كان يقطن فيها الأرمن من زمان. استنتج “محمود الدمرجي” أنه لا بد قبول هؤلاء الأولاد في بيت الشباب وإلا ضاعوا.

“هرانت” أفندي الذي يتذكر “محمود الدمرجي” جيداً لم يقل له شيئاً خلال زيارة “كانغال”، نعم، فخلال فصل الصيف قام هرانت وحسب العادة بزيارة أرمينيا سابقاً وبلدات ومدن ومناطق أخرى يقطنها أرمن والتي أفرغت منذ خمسين سنة تقريباً من شعبها الأصلي. وبقي بعض الأرمن منتشرين هنا وهناك في مدن وقرى مختلفة. كان يجمع الشبان الأرمن الصغار، وخاصة الأيتام منهم، ويأخذهم الى استنبول الى “بيت الشباب الأرمني” لـ”كيديك باشا” التابع للأرمن الانجيليين. كان هو مدير وروح ذلك البيت. فلم يكن بالإمكان الحفاظ على “البيت” دون إصراره واجتهاده.

كان الأطفال والشبان في “البيت” يتعلمون اللغة الأرمنية ويتربون كأرمن ومسيحيين. وبعد أن يكبروا قليلاً، كانوا إما أن ينتقلوا الى معترك الحياة أو أن يتابعوا الدراسة في مؤسسات تعليمية أعلى، وخاصة المجتهدون والأذكياء منهم. وكان قبولهم في تلك المؤسسات التعليمية يعتبر حظاً وحلماً.

يتذكر “هرانت أفندي” جيداً أنه في مساء يوم حار وصل الى “كانغال” آتياً من “سيباسديا”، وسأل بالتركية الصبية الذين يلعبون في الطريق عن بيت “محمود الدمرجي”. تقدم الصبية جميعهم وأرشدوا الأفندي الاستنبولي الى بيت محمود. وأبدى الاستنبولي عرفان جميله للصبية بقطعة سكر لكل واحد منهم.

كان محمود قد حول الطابق الأرضي الى مشغل حدادة، وقد عرف في أرجاء المنطقة بلقب “محمود الدمرجي”. (أي الحداد ن.أ.) وكان الجميع يقصدونهم من أجل صنع أو تصليح محراث أو قدّوم أومعول. عندما وصل الأفندي الاستنبولي كان الحداد يطرق محراثاً ولذلك جعله ينتظر وعندما انتهى من العمل ترك المحراث جانباً وصعد مع ضيفه الى البيت.

أمضى الأفندي تلك الليلة هناك، زوّد محمود الضيف بمعلومات عن “كانغال”، الحمد لله لم يبقَ أيتام في “كانغال”. إيه، لم يبق شيء من “كانغال” الأرمنية أيام زمان، فهناك بضع عائلات أرمنية يعيشون على قد الحال، لا غير. وفي اليوم التالي، جال الأفندي الاستنبولي في “كانغال”، وثم مضى فارغ اليدين فلا يوجد “زبون” يأخذه الى استنبول.

بعد عدة أسابيع، استلم “محمود الدمرجي” رسالة يتبين فيها أنه يوجد في “كانغال” يتيمان صغيران في رعاية “عمهما” وأنه من الضروري إنقاذهما وإيصالهما الى استنبول. احتار السيد “هرانت”، فلماذا لم يقل له الحداد محمود شيئاً خلال زيارته. ما هو السر المدفون، لا يهم، المهم هو أن يعيد الولدين الى أصلهم الأرمني. فأرسل رسالة بالايجاب للحداد الذي هو أيضاً أرمني من “كانغال” وتبنى اسم محمود للتمويه أمام الأتراك وشكوكهم. لم يكن لوحده فعل ذلك، فكثير من الأرمن تبنوا أسماء تركية وإسلامية. وهذه كانت إحدى خيرات حكومة “تركيا” الفضيلة، كان يتوجب محو اسم الأرمن من المناطق التركية والأرمنية سابقاً.

* * *

والآن، ها هما الطفلان، اليتيمان من”كانغال”، يقفان أمامه وقد خرجا من الحمام الساخن، إنهما نفس الأطفال الذين أرشدوه الى معمل “محمود الدمرجي” في الصيف. وأول شيء فعله الطفلان بعد الحمام هو تقبيل يد المدير.

كان “كارو” قد أقسم أكثر من مرة أن الطفلين هما ولدا “أخيه المرحوم” اللذان حكما عليهما بالضياع. في نهاية الأمر، كانا سيصبحان تركيان أو كرديان. فالذي جرى لهم مضى لكن على الأقل يمكن إنقاذ هؤلاء الأطفال.

– يا “هرانت كوزيليان أفندي” أنا أرمني، ولكن ماذا أقدم لملتي. أعرف فقط “أبانا الذي في السماوات”. أنا الذي دخل المدرسة الأرمنية وكنت أعرف الكثير لكن السفر برلك أنساني كل شيء. الله يجازي العثمانيين، ألا تأسف على “سيباسديا” الغالية. يقال أن العديد من الكتاب الكبار كانوا من تلك المدينة أمثال الراهب “مخيتار” الكاثوليك و”فاروجان” أفندي الذي كان رجلاً كالباشاوات، وكذلك “مراد” باشا من سيباسديا. والآن ماذا بقي من “سيباسديا” القديمة؟ على الأقل يجب إعادة الطفلين اليتيمين الى أصلهما الأرمني.

استمع السيد “هرانت” وساوره الشك في زاوية من فكره، هل الطفلان يتيمان فعلاً ؟ لماذا لم يقل له “محمود الدمرجي” شيئاً منذ البداية؟ مهما يكن، قام بتدبيراته ليأخذوا الطفلين الى الغرف بعد تقبيل يد “عمو كارو”. كان “عمو” يرعاهم ويطلب منهم أن يجهروا دائماً أنهم أيتام ودون أب وأن “عمو كارو” يرعاهم، الخ، الخ. فأقوال ونصائح “كارو” تعتبر كالقوانين بالنسبة لأفراد العائلة، ومن كان يجرؤ تجاهل نصائحه.

ولكي لا نشد القارئ الى جو مبهم فهذان الطفلان ليسا يتيمين إنهما ابنا “كارو”، فعندما سمع  هذا الأخير أن “محمود الدمرجي” أرسل “هرانت أفندي” فارغ اليدين من “كانغال”، قصده.

كان الناس يخافون من شر “كارو”، كان رجلاً قصير القامة بوجه قبيح والجميع يعلم أنه في الماضي دخل السجن لاقترافه جريمة. فعندما قصد “محمود الدمرجي” حاول الأخير التهرب من سؤال “كارو”.

– يا محمود، لماذا أرسلت “هرانت” أفندي، ولماذ لم تعطه أسماء الأطفال؟

– ولماذا أعطيه أسماء أولادك، يا “كارو” أفندي، ذاك أتى ليجمع الأيتام ويأخذهم معه الى استنبول.

تدّخل “كارو” قائلاً: – إيه، إن لم يكن أولادنا أيتاماً، من هم إذاً ؟ لماذا لم تقل شيئاً لذلك الأفندي الاستنبولي.

– يا “كارو”، يا “كارو”، الحمد لله أنك أنت وزوجتك أحياء ترزقون. هؤلاء لا أب لهم ولا أم..

– الله يلعنك يا “فارتيفار”.. ، ماذا سيجري لهما إن بقيا في “كانغال”، ألن يصبحا أولاد أتراك؟ أولاد أكراد؟ ألن يحمل ابني “ميناس” وابني “هوفانيس” اسماً مسلماً.

– هؤلاء لديهم أب وأم، ولكن اكتب لذلك الأفندي أنه في “كانغال” يوجد أيتام يبقون في بيت عمهم. وإن بقي أولادي في “كانغال” اللعينة سيصبحون أيتاماً، … اكتب له.

لم يكن “كارو” يطلب بل يأمر “محمود الدمرجي” أي “فارتيفار”، فلم يبق للحداد “فارتيفار” منفذ آخر، ولا يمكنه التخلص من شر “كارو”، وماذا ؟ بكذبته البيضاء سينقذ ولدين صغيرين من “كانغال” الأرمنية في السابق، حكم عليهما التتريك أو أن يصبحا أكراداً في سن مبكرة. وهكذا فعل. كتب للأفندي “هرانت كوزيليان” أنه يوجد في “كانغال” يتيمان يجب نقلهما الى استنبول لكي يجري إنقاذهما من التتريك أو من أن يصبحوا أكراداً..

* * *

وصار الأخوان من ابناء “بيت الشباب الأرمني”. وكان يوجد هناك ستون طفلاً آخرين جميعهم من القرى الأرمنية سابقاً. كان “هرانت كوزيليان” قد جمعهم وأتى بهم من “خاربيرت” و”فان” و”دارون” و”سيباسديا” ومناطق من “كيليكيا” و”كارين” وغيرها. إنهم أطفال الشعب الأرمني احتموا في مناطق كانت أرمنية في السابق تضج بالحياة وأتوا بهم الى استنبول لإنقاذهم وإعادتهم الى أصلهم الأرمني..

عندما أخذوا “ميناس” الى الكنيسة لأول مرة رأى هناك عدداً كبيراً من الكتب المقدسة تشبه الكتاب المقدس في “كانغال”، فقبَّلها واحدة واحدة ورفعها الى جبينه. وطلب من أخيه أن يفعل مثله. إيه، فالشيء الوحيد الذي كان يربطهم بأصلهم الأرمني في بيتهم كان “الكتاب المقدس”، كانوا يجهلون القراءة، فالتواصل الوحيد مع ذلك التقليد الثمين كان تقبيله ورفعه الى الجبين. وبعد، كان “ميناس” ينظر الى الكتابة الموجودة في أعلى الهيكل بالأحرف الكبيرة غريبة الشكل، بطبيعة الحال لا يمكنه قراءة تلك الكتابة الغريبة “الله محبة”. كان الأولاد أقسموا أنهم سيذبحون خروفاً عندما يستطيعون القراءة.

ولم يكن سهلاً تنفيذ هذا القسم، فكان تعلم الكتابة والقراءة باللغة الأرمنية جهداً صعباً وطويلاً، فمن أجل الوصول الى النور كان عليهم السير “على طريق مبلطة بالصوان ومزروعة بالأشواك كما قال الشاعر “تانييل فاروجان” في الماضي.

كان التحدث باللغة التركية ممنوعاً في “بيت الشباب” في قلب استنبول وقد تبنى “هرانت” أفندي هذه السياسة لكي يتمكن من تعليم الطلاب الستين تحت سلطته والذين يأتون من مناطق تركية أو كردية اللغة الأرمنية. فلم يكن الأمر سهلاً لا على الطلاب ولا على الأساتذة فالذي قبض عليه بتهمة التحدث باللغة التركية كان يتعرض للضرب ولا أحد ينافس الأفندي المدير على ذلك.

في أحد الأيام، في أثناء اللعب، وعندما كان يصرخ “ميناس” باللغة التركية على طالب آخر استحق لعصا المدير المبارَكة.

وفي يوم آخر، عندما تشتكي المعلمة “ميناس” للمدير لأنه كان ينسخ عن زميله يؤنبها ضميرها للضرب الجليل الذي تعرض له الطفل.

مهما كان “هرانت كوزيليان” رجلاً قاسياً فإنه رجل رؤوف بنفس القدر، فهو مقتنع أنه دون القساوة الشديدة لا يمكن إعادة هؤلاء الأطفال الذين صاروا أكراداً أو أنصاف أكراد الى أصلهم الأرمني. عندما يتذكر “ميناس” ضربات العصا المبرحة والمشقات التي تعرض لها في “بيت الشباب الأرمني” يقدّر صرامة المدير في الماضي ولا ينسى فضله. كان “ميناس” وأخوه “هوفانيس” يتعذبان بقدر ضربات العصا وشد الآذان من عذاب الاشتياق، فكانا يشتاقان خاصة الى أمهما التي عارضت ذهابهما الى استنبول، فهي أم ومن الطبيعي أن تفترق عن أولادها بصعوبة. وكان الأولاد يتعذبان من الشوق لأب لم يعرفوه. أما الأب الذي تحول الى “عمو” فكان قاسياً جداً ويطلب منهم أن يجهروا أنهم أيتام واتكالهم هو على “العم كارو”. كم كان الطفلان يتعذبان كل يوم لتقديم نفسيهما على أنهما يتيمان.

في اليوم الأول تدبر المدير أمر “ميناس” وطلب منهم أن يجلس في الصف الأول بدلاً من الخامس، رغم أنه في سن يسمح له بالجلوس في الصف الخامس. كيف له أن يجلس في الصف الخامس وهو لا يعلم اللغة الأرمنية. وبتدخل من نائب المدير التركي جلس الأخ الأكبر “ميناس” في الصف الثالث.

مرت السنوات الثلاث رغم المشقات والشوق والمرارة. وصل “ميناس” الى الصف الخامس وكان عليه أن يختار بعدها إما الصنعة أو مدرسة أخرى.

في نهاية العام الدراسي، زار “بيت الشباب الأرمني” المحسن الأرمني من أمريكا “سديبان بيليبوسيان” الذي كان يرعى مادياً “ميانس” وكان فخوراً بالنتائج الممتازة التي حصل عليها ابنه الروحي.

وأمام المدير والمحسن، سمع “ميناس” أكبر بشرى في حياته، أنه سيرسل الى البعيد، الى عنجر. وسيصبح طالباً في المدرسة الليلية التابعة للإرسالية التبشيرية الألمانية-السويسرية “هيلفسبوند” ومنها الى الجامعة ليصبح “رجلاً”.

لقد وصل “ميناس” بل تخطى مقدرته على تنفيذ قسمه فقبل سنتين كان باستطاعته قراءة الكتابة على الهيكل “الله محبة”، واقتباسات “الكتاب المقدس”، لكن أين هو الخروف؟

لقد خلق نجاحه في الذهاب الى عنجر مسألة أخرى بالنسبة لـ”ميناس”. فقد بشر بالخبر “عمو كارو” أو بالأحرى “بابا كارو”، فأين هو “اليتم غير الموجود”.

بطبيعة الحال غضب المدير “هرانت”، لكن هذه المرة لم يضربه “فلقة” بل رفع الموضوع الى مجلس المدرسة، فخلال السنوات الطويلة لعمله لم يتعرض لألاعيب مماثلة. فطوال هذه السنوات الثلاث قام “ميناس” الذي لا يصل الى طول الأصبع وأخوه الصغير بالتثميل عليه وحوّلوا والدهم الى “عمو”. فقام المدير الغاضب بالتهديد بأن يلـّقن هؤلاء الكذابين درساً.

فسأل أحد أعضاء مجلس المدرسة: – ماذا تريد أيها المدير الأفندي، فالشخص الذي يتراجع عن أبوته بإرادته من أجل إنقاذ أولاده من التتريك يجب أن يستحق وساماً.

لم يقتنع المدير ولم يتمكن من بلع غضبه، فبعد فترة انتصرت فكرة ذلك الأفندي العضو في مجلس المدرسة. فقد استحق “كارو الكانغالي” الغليظ والفظ إعجاب أعضاء مجلس المدرسة. واقترح رئيس المجلس أن يدعى “كارو” الى الجلسة ويسمعوا الى تفسيره وقصته. كان “كارو” قد أتى الى استنبول ليحضر حفلة نهاية السنة.

وبعد يومين، دخل غرفة اجتماع المجلس، جلس الكنغالي المحتال والأخرق بخشية أمام أعضاء المجلس الأفندية.

كان الأفندية لا يريدون شيئاً منه، فقط أن يعلموا لماذا كذب على المدير ولماذا تراجع عن أبوة أولاده. ولايهم إن كانت القصة طويلة.

* * *

استصعب “كارو” البدء بالكلام، فالفكرة كانت تهيج بذكريات الماضي المريرة الى حد كبير، فلم تكن حياته سهلة أبداً. من أين يبدأ، كان يفرك يديه كالطالب الذي لم يحفظ درسه ويعرق ويدخن وينظر الى السقف ويحدق بالسراج المعلقة. لقد لوثت رائحة الدخان الآتي من “كانغال” جو قاعة اجتماعات الأفندية الاستنبوليين ذوي الذوق الرفيع.

تدخل “هرانت كوزيليان” قائلاً: – يا “كارو أفندي” كلنا بانتظارك. ابدأ، ابدأ، فالأفندية لديهم أشغالهم.

– يا أفندية، أنا رجل مجرم، ماذا تريدون مني؟ فليتعلم أولادي ويصبحوا رجالاً، وانسوني.

قاطعه رئيس المجلس الأفندي الدكتور قائلاً: – يا “كارو”، من الواضح أن زوبعة تجثم تحت صدرك. ابدأ، ابدأ من البداية، ولا تقلق بالنسبة لأولادك فهم أولادنا أيضاً.

وكأنه ارتاح لذلك الكلام وبدأ “كارو” يشرح قصة حياته بلغته التركية الريفية الخاصة.

– يا أفندية، عندما بدأت حياتي، وبدأت غاليتنا “سيباسديا” وحبيبتنا “كانغال” تتفرغ من السكان كان السفر برلك. باكراً فقدت أبي وأمي وأخي وأختي. تبدأ ذاكرتي عندما أخذني الضابط العثماني ورمى لي قطعة خبز كالكلاب وأخذني الى اسطبل. وصار ذلك الاسطبل بيتي ولا أدري الى متى. لم أكن لوحدي فكان هناك الكثير الكثير من الأولاد، كان معلمنا يرغمنا على العمل مثل البغال، قطعة خبز وعمل شاق طوال النهار، ولا مجال للتذمر فالفلقة جاهزة دائماً، وفي الليل عندما ينزوي كل لوحده كان بإمكاننا البكاء بصمت.

– لم يتحمل بعض الأولاد فماتوا، فأخذوهم كالكلاب ورموهم في الحفر، الأمر لا يحتمل، وسيأتي دورنا جمعاً للقتل لا مجال للفرار. وفي يوم من الأيام، تمكنت من الهرب، بحثوا عني كثيراً لكن تملصت بأعجوبة من الرب. وكم طال تجوالي، لا أحد يعرف. أذكر أنني كنت سأموت من الجوع عندما رفعتني يدان فنجوت، صعب علي ابتلاع لقمة خبز ولكنها أعطتني قوة ووجدت نفسي في اسطبل ضابط آخر، وكان صاحب الاسطبل أشد قساوة وظلماً، أطلب من الله ألا يري الذي رأيته حتى لعدوي، فكانت يداي وقدماي تبقيان متورمتين، كنا نبتلع الشتائم “كسلطة” مع الخبز الجاف. فلا يتركون لا أب ولا أم ولا أخت، كنت أحسد كل يوم ألف مرة الكلاب التي تعيش معنا.

لو بقيت كذلك لكانوا جروني أنا أيضاً في حفرة ما، أعني أنهم كانوا سيرمون جثتي. ففي أحد الأيام هربت، فأنا ميت في الحالتين، أظن أني بقيت يومين في العراء، وثم وجدوني وأخذوني الى الأفندي الظالم. قبلت قدميه ألف مرة لا بل ألفي مرة واعتذرت، وأخيراً تكرم وقبلني من جديد تحت رحمته. وبدأت حياة العبودية من جديد، ولا أذكر كم شهراً بقيت عنده، وعندما ذهب معلمي الى الجبهة كنت أصلي من كل قلبي أن يقتل ويأتوا بجثته. لكن لم يحدث ذلك، عاد من جديد لكنه كان قد هزل. كأنه مر بمجازر كبيرة، ولذلك صار أكثر قساوة نحونا. لم أتحمل وهربت من جديد.

لا أذكر بعد كم يوماً رأيت فارساً، وعلى الأكيد، أنه ظالم آخر، حاولت الهرب لكن عبثاً. فأنا على أقدامي التي صارت كالقصب من شدة الجوع وحتى من الصعب الوقوف عليهما، وهو على حصانه، فوصل إلي ومسكني من يدي.

– لا تخف، يا بني، لا تخف. من أين أنت؟ ابن مَن أنت؟ كان يتحدث بلغتي أما أنا فكنت قد نسيتها.

– فاستطعت أن أقول: – أنا من “كانغال”.

بالرغم من لطافة الرجل إلا أنني كنت خائفاً منه، لم يكن الرجل من منطقتنا فحسب بل كان يعرف عائلتي. فأخذني الى قريتي “كانغال”، وعلى الطريق، بشرني أن الحرب قد انتهت وأن العثمانيين قد أكلوا الضربة على وجههم، وربما لن تتمكن هذه الدولة الظالمة من الوقوف على أقدامها من جديد.

كانت “كانغال” قد أفرغت من سكانها الأصليين حيث ذبحت غالبيتهم. ولكن، وأي معجزة، بقي أحد أخوالي حياً، كم سُعد خالي المسكين حتى أراد أن يضمني الى قلبه.

وبدأت الحياة تأخذ مجراها الطبيعي، كنا نملك أملاكاً كثيرة وكان من العصب تأمين لقمة العيش ولكن كان ثمة أمر واحد جاثم على قلوب الأرمن الناجين وهو أنه تم تفريغ “سيباسديا” من الأرمن، وكذلك تم تفريغ “كانغال” وملأ المهاجرون الأتراك والأكراد مكان الأرمن. كان خالي حزيناً دائماً فكم فقد من أقرباء له، وكان يتألم على وجه الخصوص لكاتب من “سيباسديا” اسمه “فاروجان” كان يعرفه شخصياً ويكرر دائماً “كم كان رجلاً مميزاً، له لغة ذهبية وقلم ذهبي”. وكان أحياناً يروي بصوت خافت وبخوف عن البطل “مراد من سيباسديا” حيث كان خالي الأكبر جندياً عنده وصعد الى الجبل كفدائي ولم يعد . يقال أنه قتل أثناء المعارك، كم كان رجلاً ذا شجاعة لا تصدق ذاك “مراد”، كان خالي يعبده.

أومأ الأفندي رئيس المجلس بسعلة مصطنعة ليفهم “كارو” أنهم متواجدون في تركيا ولا داع لتفاصيل من هذا النوع.

مررت من فترة الصبا الى الشباب، كانت عيناي تلمعان وتدوران يميناً ويساراً وقلبي يخفق، إنها طبيعة الحياة وقانونه، يجب أن أتزوج ولكن أين الفتيات اللواتي هن من عمري؟ محيت الفتيات على يد العثمانيين، كانت هناك فتاة تركية في قريتنا “كانغال” وكم كانت جميلة تلك الملعونة، وكأنها فلقة القمر، جميلة الجميلات. خطفت قلبي تلك الملعونة ، كانت تكبرني في السن ولكن ماذا أفعل، ارتبط قلبي بها.

سعى خالي وبعض الأرمن كي لا أرتبط بتلك التركية ولكن ما الفائدة؟ قلبي قاوم كل العراقيل وأصبحت تلك المرأة من جميلات الجنة زوجتي.

وكانت كل مساء تغسل قدمَي وأما في السرير فكانت تأخذني الى الجنة وتعيدني مرات ومرات.

وفي هذه المرة، نظف عدد من أعضاء المجلس حنجرته، فانتبه “كارو” أنه استرسل كثيراً.

– ماذا يا أفندية، هل أطيل عليكم، عجيب أمر تلك المرأة كم كانت تحبني ولماذا كانت تذوب أمامي، هي الجميلة وأنا القبيح والقصير. ما هذا السر؟ انكشف ذلك السر بعد فترة قصيرة. ففي يوم من الأيام، بعد ذهابي الى الحقل للعمل لاحظت أنني نسيت كيس زادي، ولا أستطيع تحمل الجوع حتى الليل، فعدت.

وعند عودتي تفاجأت زوجتي ولم تدعني أدخل الى البيت، ساروني الشك كأفعى في رأسي، فهذه المرأة تخبئ سراً، أزحتها عن طريقي ودخلت. كانت العاهرة قد أتت بأكثر من واحد، وتكوّم الشرشف واللحاف وكلهم كانوا يرتعشون، فإضافة الى ذنبهم قبض عليهم، ماذا سيفعلون.

أخرجتهم من بيتي، مَن يستطيع لوم الرجال، فزوجتي هي التي تدلعهم، هم ما ذنبهم؟ ركعت زوجتي أمامي واعتذرت وقبلت قدماي. فتذكرت أيام الماضي عندما كنت أقبّل أقدام الآغاوات الأتراك. ففكرت وقررت.

– ماذا فعلت يا “كارو”.

– فعلت ما فعلوه. فالأتراك كانوا يغتصبون فتياتنا وأمهاتنا الطاهرات وثم يقتلوهن. دخلت الى المطبخ وكانت زوجتي تلحق بي زاحفة على الأرض وتلتف حول قدماي. دخلت وأخذت الساطور وقطّعت تلك التركية قطعاً، العاهرة التي دنّست سريري.

كان أعضاء المجلس ينظرون الى بعض وقد تبدلت ملامحهم أما “كارو” كان يتابع قصته دون أن يغير من ملامح وجهه، وكأنه ليس هو صاحب العلاقة ولم يسمع بحادثة شنعاء مماثلة.

أرى أنكم ارتبكتم يا أفندية، الحق معكم ولكن أليس هؤلاء من نفس دين العاهرة مَن جعل قلبي يقسى ويتحجر؟ لقد قتلوا كبارنا وأنا قتلت زوجتي التركية لأنها كانت عاهرة. فقدسية سريري فوق كل شيء.

سحب الدخان بقوة، وثم وبعد صمت قصير، عندما كان سيتابع تدخل أحد أعضاء المجلس وقال:

– ولكن، يا سيد “كارو”، كتابنا المقدس لا يقر بمثل ذلك. حرام عليك.

– وماذا يقول الكتاب المقدس، اعذروني أنا لم أقرأه لكني دائماً مجدّته، وعلّمت أولادي أن يمّجدوه. ذهبت الى المدرسة لعدة سنوات، وعندما كنت طالباً حطّم الأوغاد بيتنا ومدرستنا، كل شيء، دمروا كل شيء، وحرمونا حياتنا. أين أبي وأمي وأخوتي وأخواتي، ماذا فعل بهم الأتراك؟

– يا “كارو” أفندي، اخفض صوتك قليلاً، نحن في تركيا، فهنا حتى الجدار لها آذان تصغي.

– فليحصل ما يحصل، ماذا سيفعلون بي؟

تدخل عضو آخر وقال: – يا “كارو” أفندي، أتعرف ماذا فعل السيد المسيح؟

– ماذا فعل؟ فأفعاله كثيرة.

– عندما كانوا سيرجمون امرأة فاسقة، أنقذها هو.

– حسناً فعل، لكن هو المسيح، من أكون أنا ؟ أنا “كارو الكانغالي”، أنا مجرم..

لم يكن من السهل التعامل مع حذاقة هذا الرجل. فطلب المدير “هرانت كوزيليان” أن يتابع “كارو” مغامرته.

– قطّعت تلك المرأة إرباً إرباً، وسلّمت نفسي للشرطة حيث استجوبوني مطولاً. يذهب أحدهم ويأتي آخر، هذا شرطي وآخر قاضٍ ومستنطق، وما أدراني. رويت نفس القصة للجميع، وجميعهم كانوا ينهون الاستجواب بنفس السؤال “هل أنت مذنب؟” مهما كان، كنت أجاوب الجميع بنفس الجملة ” يا أفندي، كنت صبياً في الثامنة أو العاشرة من عمري عندما رأيت كل ذلك القتل والدم والظلم، ما أدراني ما هو الذنب وما هو العدل؟ “.

كنت أقول لهم أن يعاقبونني دون إحراج، فعند جوابي هذا لم يكونوا يجرأون قول أي شيء. فرجالهم علموني طرق الجريمة وكم من الجرائم اقترفوها ضدنا..

– لم تطل المحاكمة ولم أستسمح أو أتوسل للقاضي، وكيف لهم أن يرحموني أو يرأفوا بي، هم لا يعرفون الرحمة. لا أريد أن أطيل عليكم، حكموا علي بالسجن المؤبد وأخذوني الى سجن “ديكراناكيرد”، وقبل أن أصل الى هناك كانوا قد سمعوا عني، وعندما دخلت كان السجناء يتعاملون معي باحترام، فالذي يقطع زوجته الحسناء إرباً يفزعون منه، وهكذا كان الجميع يسعى كي يكونوا لطفاء معي.

وبعد عدة سنوات، وبعفوٍ قاموا بتخفيف مدة سجني الى ثلاثين عاماً، وفي أثناء ذلك كنت قد وصلت الى مكانة حسنة في السجن. كان بعض السجناء يلعبون القمار ولكي أسكت عنهم كانوا يدفعون لي أجرة القهوة والشاي التي أصنعها لهم، فأصبحت القهوجي المطلوب في السجن، وكانوا يرغبون بشرب القهوة التي أصنعها وشيئاً فشيئاً صرت أكسب المال، وعندما استفدت من العفو العام وخرجت من السجن كنت أملك المال. عدت الى قريتنا “كانغال” بعد إثني عشر عاماً من السجن وأردت أن أبدأ حياتي من جديد.

وأول عمل قمت به كان شراء أرض، عارضني خالي الذي بقي حياً، بحجة أنه لا داعي لشراء أرض وأراضي العائلة موجودة. قمت بترميم بيت والدي القديم ومكثت فيه، أصر خالي أن أتزوج وأكوّن عائلة، راقت الفكرة لي ولكن من أين لي أن أجد رفيقة عمري، هذه المرة قررت أن أجد فتاة أرمنية، ففي المرة الأولى رغم نصائح أقربائي وأصدقائي تزوجت من تلك التركية العاهرة، ودفعت ثمن عدم إطاعتي بدخولي السجن مدة إثني عشر عاماً، وما فائدة جمال وجهها ونهديها وجسدها، اللعنة..

مضى خالي، الله يحفظه، الى قرية يسكنها الأكراد تبعد بضع ساعات عن “كانغال”، وفيها أربع عائلات أرمنية وفي إحداها فتاة أرمنية. لن أطيل عليكم وتجمعنا في مكان واحد. وكما ترون أنا قبيح الوجه وقصير وكبير في السن والفتاة تصغرني بكثير وعلى شيء من الجمال، طبعاً لا تصل الى حد جمال التركية العاهرة لكن تبقى أنها أرمنية. هي أيضاً كان لها حساباتها، فحكت لي لاحقاً أنها فكرت بأن الرجل قصير وكبير في السن وقبيح ولكنه يملك المال والأكثر من ذلك أنه أرمني، فكرت عائلتها بنفس المنطق، فمن أين لهم بعريس أرمني. لم تأخذ الأمور وقتاً طويلاً، تزوجنا وصار لنا بيت، وكان كل شيء على ما يرام ورزقنا بثلاثة أطفال، الولدان، أنقذهما “هرانت أفندي”.

ستقولون الآن، أن هذا المجرم الكانغالي خدعنا وقال لنا أن الأولاد أيتام. في “كانغال” الجميلة كل أرمني يعتبر يتيماً، وقد قال “محمود الدمرجي” أي “فارتيفار” للأفندي “هرانت” أنه لا يوجد أيتام في “كانغال”. إيه، يا أفندية، كل أرمني في وطن أجدادنا، في أرمينيا هو يتيم، يتيم. لم يكن “فارتيفار” يفهم ذلك، فكفرت، ومن بعدها فهم. والآن يقول “هرانت أفندي” أنه سيرسل ابني الكبير “ميناس” الى عنجر في لبنان. ليرسله، إن تعلم لغته وتاريخه هناك، فهذا حسن، ويصبح رجلاً وليس يتيماً.

بالنسبة لي، سيكون صعباً على زوجتي البعد عن ابننا لكنه سيصبح أرمنياً صالحاً ولن يبقى يتيماً، سيصبح رجلاً، فإن بقي في “كانغال” سيكبر يتيماً ، فليذهب ويصبح رجلاً.

تبادل أعضاء المجلس النظرات، ففي صدر هذا “المجرم” الكانغالي القبيح والجاهل هناك قلب ينبض بالروح الأرمنية..

وفي السنة الدراسية المقبلة، ذهب “ميناس” الى عنجر في لبنان ليصبح “رجلاً” وينهي “اليتم”.

 * * *

روى لي هذه المغامرة “ميناس” الكانغالي”.

*قصة من كتاب “شهادة مدى الحياة ..من آرام الى آرام” للكاتب كيفورك أبيليان، ترجمة د. نورا أريسيان، عنجر – لبنان، 2006.

Share This