أردوغان مُستشرقاً

 

أزتاك العربي- كتب د. عقيل سعيد محفوض مقالاً بعنوان “أردوغان مستشرقاً” على موقع مركز دمشق للأبحاث والدراسات ، وقال : “كان إدوارد سعيد منزعجاً من الكيفية التي يُنتج بها الغربُ معارفَه عن الشَّرق، يُسقط عليه مخياله وخططه وسردياته وهواجسه وشعوره بالتفوق، إلخ… ويُنتِج عنه صوراً هي انعكاس لما يراه الغرب نفسه أكثر مما هي تعبير عن حقيقة أو واقع الشَّرق. ثم إنه كان منزعجاً أيضاً من كيفية تلقي الشرق نفسه لما ينتجه الغرب عنه، واجتهد سعيد كثيراً في تفكيك علاقات القوة والمعنى الكامنة في الاستشراق.

ومن بين الصور والمدارك النمطية حول الشرق، التي يرفضها أو ينقدها سعيد، أنه عالمُ عضويِّة العلاقة بين الدِّين والمجتمع، وبين الدِّين والسياسة، وأولوية الأمة أو القبيلة أو الطائفة أو القرابة أو الطريقة على الدولة، ولذلك يبدو الشرق –من هذا المنظور-متأخراً وطوباوياً ومستبداً، وهو عالمُ التقليد والإتباع، وعالمُ “اللا دولة”، ومُستَعْص على التنوير والتحديث. ويجد القارئ المزيد في كِتَابيّ إدوارد سعيد: الاستشراق، والثقافة والإمبريالية، كما في كتبه الأخرى. وثمة كتابات عديدة لباحثين ومفكرين من طراز رفيع اشتغلوا على الموضوع، مثل: محمد أركون وسمير أمين وحميد دبشي وداريوش شايغان والقائمة طويلة. إنَّ مناسبة هذا الحديث، هو ما تتكرر الإشارة إليه في الخطاب السياسي والإعلامي في تركيا وفي المجال الإسلامي الأعم اليوم، من نقد للغرب وكيفية تناوله للشرق أو للعالم الإسلامي، تحديداً تركيا، إذ تتم استعادة مقولات الاستشراق والدراسات الأنثروبولوجية والتاريخية والدينية وغيرها حول الشرق، وحول السلطنة العثمانية في مراحلها المتأخرة. ولهذا الأمر أسباب عديدة، نرى أن كثيراً منها وجيه ومبرر بالتمام، بحدود ما اطلعنا عليه من قراءات وتقديرات حول الموضوع.

يُفترض أن يكون أردوغان وأصحاب التيار الإسلاموي منزعجين مما يفعله الغرب تجاه الشرق، كما يُفترض أن تُمثّل مدارك الغرب عن الشرق، والصور النمطية التي ينتجها ويروجها عنه، مصدر تهديد رئيس من منظور هؤلاء أيضاً، الذين يُوجهون انتقادات مُتواصلة للغرب “الصليبي” و”الكافر” و”المتوحش” و”المادي” و”الفارغ” و”النجس” و”العجوز” حسب تعابير رددها ويرددها أردوغان وإسلامويون آخرون في مناسبات مختلفة.
إنَّ ما يحدث في الواقع هو أن التيار الإسلاموي أو السلطاني في تركيا والمنطقة يبدو متوافقاً، قُل “متواطئاً موضوعياً”، مع الغرب في تلك النظرة للشرق، وما يقوم به أردوغان وحزبه وموالوه يعزز ما ذهب إليه الاستشراق، ويُكذِّب أو يُناقض أو يناهض ما يحاوله نقاد الاستشراق ونقاد الرؤى التي تنطلق من “المركزية الغربية” المتعالية تجاه ما هو غير غربي وتجاه الشرق بالذات. وسوف تركز هذه القراءة على جوانب محددة من الظاهرة التي تتطلب المزيد من التدقيق والتقصي، تحديداً ما يحيل إليه عنوان هذا النص، “أردوغان مستشرقاً”، بمعنى كيف أن أردوغان ينظر إلى الشرق نظرة الغرب أو الاستشراق له، ويقوم قولاً وفعلاً بكل ما من شأنه أن يعزز تلك المدارك والصور النمطية عنه.
عمل أردوغان طويلاً على إظهار نفسه قائداً عثمانياً أو سلجوقياً، وعلى إنتاج صورة له وفق مقولة “المستبد العادل” المعروفة في الفقه السياسي الإسلامي، بكل ما يطلبه ذلك من أسلمة ومذهبة وتطييف، وقد رفع موالوه في الحملة الانتخابية الأخيرة شعار “رئيس الشعب”. وبذلك يعزز أردوغان فكرة الاستشراق عن الشرق المستبد ودول الشرق الاستبدادية، لكنه لا يسير على منوال الاستشراق أو منهاج المستشرقين؛ إنما على منوال أو منهاج الإسلام السياسي في استبطان إرادة ورؤية الغرب تجاه الشرق. وقد أغرق أردوغان البلاد بالرموز السلطانية في السلجوقية والعثمانية، حتى أنه حينما أقام قصره وضع ديكورات وأكسسوارت مطابقة تقريباً لما كان في تلك الحقبتين، كما أنه أعاد إنتاج صورة ومدارك رئيس الوزراء الأسبق عدنان مندريس الذي تم إعدامه بعد انقلاب عسكري، بتهم عديدة، أهمها تهديد الأمن الوطني وجرّ البلاد للفوضى. وكان مندريس رمزاً لأسلمة أو مذهبة تركيا، وقد شن حرباً لا هوادة فيها ضد اليسار والتيارات العلمانية والحداثية في المجتمع والدولة، كما كان رمزاً للعلاقات مع إسرائيل والغرب. وفعل أردوغان الشيء نفسه تجاه السلطان عبد الحميد، ولا داعيَ للاستفاضة بالحديث عنه وعن استبداده، لأن في الثقافة الشفاهية ما يكفي من المدارك والصور القارَّة والمستقرة عن الرجل، وعلى ما أذكر فإن الروائي حنا مينة عرض بعض الصور عن سيرته واهتماماته في نص روائي جميل بعنوان “المصابيح الزرق”، ويكفي قراءة نص “غرائب المكتبجي” لـ سليم سركيس أو طبائع الاستبداد لـ عبد الرحمن الكواكبي، إلخ..

قال أردوغان في معرض استعادته للحظة العثمانية المتأخرة، “بالتأكيد تغيرت الحدود ونمط الإدارة والمحددات الأساسية للحكم، غير أن الأصل والروح وغالبية المؤسسات لا تزال على حالها. وفي هذا الإطار نعتبر السلطان عبد الحميد الثاني أحد أهم الشخصيات السياسية وأكثرها طموحاً وتمتعاً بعقليّة استراتيجية أكسبت تركيا شهرة طوال الـ150 سنة الأخيرة”. أضاف أردوغان: “إنَّ الجمهورية التركية الحالية [يعني نفسه وحكمه هو، أو هو يحيل إلى ما سوف يحاوله لاحقاً] هي امتداد للدولة العثمانية، مشيراً إلى أنَّ البعض يعملون على تحديد عام 1923 كبداية لتاريخ هذا البلد، وأنَّ البعض يحاولون يحاول تجريد تركيا من جذورها وقيمها العتيقة. كلام أردوغان يتوافق بالتمام مع ما تقوله الدراسات عن تركيا اليوم، من مشروع لإعادة السلطنة، شكلاً ومضموناً، ليس بالتمام، إنما “تكييف” الأمور بحيث تكون الدولة عبارة عن “سلطنة مُحدثة” أو “هجينة”. وسعي لأسلمة أو مذهبة المجتمع والدولة، وتركيز السلطة لإقامة دولة أقرب ما تكون للدولة السلطانية، والتمييز العرقي والديني، والقمع والعقاب خارج القانون؛ بل وتكييف البنى القانونية والسيطرة على القضاء وتسييسه وإفساده، إلخ..
إنَّ التعبير الأقرب وربما الأنسب هو سعي أردوغان والتيار الإسلاموي لإقامة دولة سلطانية وفق نظام “الملل والنِّحل” الذي كان في الحقبة العثمانية، والذي تتحدث عنه الدراسات الاستشراقية كثيراً، قد لا يكون هو بالتمام، ويصعب أن يكون كذلك، إنما هو تعديل وتصفيح وتطريق عليه. ومن المؤشرات على ذلك أن أردوغان أغرق بلاده بالفعل، كما أغرق المنطقة، بتعابير الترك والكرد والعرب والعلويين والسنة والشيعة والزرادشتيين، وهو يخاطب من يفترض أنهم مواطنوه أو “رعاياه”. وهو لم يستطع أن يرى التكوين الاجتماعي في تركيا (والمنطقة) بوصفه مجتمعاً إنما بوصفه مذاهب وأعراقاً وقبائل وعشائر وطرقاً صوفية الخ وهذا ما يتوافق فيه مع رؤى الاستشراق لمجتمعات الشرق بالتمام تقريباً.
ينسحب ذلك على رؤية الرجل للعالَم، فهو يرى في الغرب عالَماً مسيحياً، وفي إيران عالماً شيعياً، وينسحب الأمر على الهند والصين، إلخ.. وهذه مقاربة ربما يجب أن نتفهمه فيها، لأن الرؤية التعصبية محكومة برؤية ثنوية للعالم (مؤمن- كافر، خير-شر، معنا-ضدنا، آمن-غير آمن، يؤكل –لا يؤكل الخ) وبأنماط تفكير وفهم قد لا تستطيع منها فكاكاً.
يمكن القول: إنَّ ثمة شيزوفرينيا أو فصاماً لدى الرجل، ولدى أكثر التيار الإسلاموي تجاه الغرب، نزعة مضادة وكارهة له بالتمام من جهة، وارتماء في أحضانه، وانجذاب إليه بالتمام أيضاً من جهة أخرى، وهذا ما يمكن تلمسه في سياسات تركيا في طورها العثماني-المتأخر على نحو خاص، وفي طورها الجمهوري-الأردوغاني على نحو أخصٍّ أيضاً، وهذا يتطلب المزيد من التدقيق والتقصي. ولعل سعي أردوغان لإعادة إنتاج صور ومدارك عدنان مندريس، وجعله رمزاً كفاحياً وإيمانياً لدولته وحكمه، يمكن تفسيره في هذا السياق. ذلك أن مندريس كان مثالاً لما سوف يسميه الأكاديميون الأتراك بـ “إسلاميي الناتو”.

تحدث أردوغان عن نمط الحياة الحديثة وأفق الحريات والإسلام المعتدل، لكنه بدا –بنظر الكثيرين- مُخادعاً، إذ إنه تحول عن ذلك للحديث عن “العيران” بوصفه شراباً قومياً وربما دينياً وإلهياً، وتحدث موالوه عن عدم استحسان نزول النساء الحوامل إلى الشارع، وأقام تعليماً دينياً طائفياً، ومَذَهَبَ المجتمع والدولة، حرّض جزءاً من المجتمع على أجزاء أخرى، السُّنة ضد العلويين، الترك ضد الكرد، الدينيين ضد العلمانيين، الصوفية ضد صوفية أخرى، الجندرمة والمخابرات ضد الجيش، والحزب ضد “الدولة”، وأقام بنى دولة موازية تمكن بوساطتها من السيطرة على المجال العام في تركيا، الإعلام والدين والاقتصاد والجيش الخ

ثمة جوانب أخرى في التشابه بين مدارك الاستشراق عن الشرق، وبين ما يحاوله أردوغان نفسه تجاه بلاده وتجاه الشرق نفسه. لكن ذلك يتطلب مقاماً آخر. وأخيراً تبدو تركيا اليوم أقرب إلى الماضي منها إلى المستقبل، تجد السير في مسار نكوصي عجيب، وملغز، غير أن العودة إلى الماضي تنطوي على احتمال أن تتكرر المسارات التي كانت في الماضي نفسه، والمنطقة تمر في هذه الآونة بالمئوية الأولى لانهيار السلطنة العثمانية وموتها النهائي في أعقاب الحرب العالمية الأولى (1914-1918).

إذا دققنا في “الاستشراق”، وفي “الثقافة والإمبريالية” لـ إدوارد سعيد، أمكن لنا القول إن التيار الإسلاموي أو الإسلام السياسي –أكثر نسخه وتشكيلاته اليوم-هو استشراقي بطبيعته. بانتظار أن يُظهر التدقيق مدى صوابية هذا الاستخلاص من عدمه. وإذا كان “المستقبل ينير الماضي”، كما يقول نيتشه، فإن العكس صحيح أيضاً، وهو أن “الماضي ينير المستقبل”، وفي ذلك عبرة لمن اعتبر.

Share This