كتاب “تاريخ غيفوند”، المؤرخ الأرمني من القرن 8 ميلادي (7)

الفصل العشرون

جمع (الخليفة) جيشاً أكبر عدداً في السنة التالية مقارنة بالسنة السابقة وقدّمه للقائد مسلم وأرسله ضد بلاد الروم (94). تعهد مسلم أمام شقيقه وأقسم بألا يعود إليه دون إزالة المملكة (الروم) وهدم المدينة التي تدعى القسطنطينية وكاتدرائية أياصوفيا المقدسة الرائعة من أساساتهما المبنية على الأرض بحكمة إلهية كدار لله.

بهذا المأرب سار مسلم على رأس جيشه ووصل إلى بلاد الروم وعسّكر بكامل جيشه على شاطئ بحر بونتوس ثم بعث رسلاً إلى الملك ليو حاملين كتاباً مهيناً فيه الكثير من التهكم يطلب منه بتجبّر: “لماذا هذا العناد؟ إلى حمى مَن تلجأ ولا تقدم الجزية وتخضع لنا؟ فبينما جميع الأمم ارتجفت رعباً منا، فعلى مَن تستند أنت وتعارضنا؟ ألم تسمع بجميع الشرور التي سببناها لجميع الممالك التي قاومت سيادتنا فقمنا بتحطيمها كآنية من فخار وسقطت جميع كنوزهم بين أيدينا؟ وهكذا، تحقق أمر الله وعهده لجدنا إسماعيل وأخضعنا جميع الممالك بعد دحرها. ألم تلاحظ أيضاً البلايا التي حلت ببلادك في عهد ملكيتك؟ هدمت مدنك بيديّ وقمت بإبادة جموع جيشك بسيفي. لذلك، إعلم! إنْ لم تدفع الجزية، فإنني تعهدت تحت القسم بأنني لن أرى بلادي ثانية قبل إزالة مملكتك وتدمير تحصينات مدينتك المسورة التي وضعت آمالك فيها. سأحوّل صوفيا المشهورة، التي هي بيت عبادتك، إلى مراحيض لجنودي والصليب الذي تركع أمامه سأحطمه على رأسك لأن إيماننا كبير بالله الذي سيعيننا”.

تضمنت رسالته إلى الملك هذه الإهانات والشتائم القبيحة. أما هو، فقد قرأ الكتاب المهين وأمر البطريرك والسينكغيتوس (95) وجميع سكان المدينة على وجه السرعة بعدم التوقف عن صلوات التمجيد مدة 3 أيام في آياصوفيا المقدسة. اهتزت المدينة كاملة واجتمعت الجموع في مكان العبادة بناء على أمر الإمبراطور. وبدوره، وصل الإمبراطور إلى المعبد المقدس وبيده الكتاب المهين وسجد أمام الرب وطلب من مخلّصنا المغفرة كحزقيال الذي كان قد غفر لأحبائه منذ البداية. وكان يرجو من خالق الكون المساعدة والثأر من العدو الشرير بعيون دامعة. ذكر أيضاً إهانة الباغي بكلمات داود : “كم أفسد العدو معبدك المقدس وتباهى أعداؤك في رغدهم واعتبروا أنفسهم منتصرين ولم يعترفوا بالزيارة التي جاءت من السماء”. 

نطق هذه الكلمات وكلمات أخرى مماثلة أمام الرب كاعتراف وظل بدون طعام 3 أيام وهو يقوم بعهد الصلاة. وبعد ذلك، أرسل الكتاب التالي إلى القائد الإسماعيلي مسلم: “لماذا تباهيت بشرورك يا أيها القوي في استبدادك وشحذت مكرك كالموسى وتبجحت أمام العلي القدير وخططت لاقتراف إثم بخيلاء ضد مخلصنا ونائبه المسيح. لذلك، طلبنا رحمته التي قمت أنت بإهانتها ليعوضك عن شرورك وفمك النجس الذي فتحته ضد ملك الملوك ومدينته ومعبد الرب وضدي. وكوني حارس كرسي المسيح، فإن الله سيسبب لك ولأفواه المستبدين البكم حسب لعنة النبي داود. أما نحن، فإننا لا نتباهى بقوسنا أو سيفنا، بل إن يمين الرب والقوة التي تحافظ على ضوء وجهه يمكنه أن يحطم الذين يتبجحون بسفاهتم وغطرستهم. ألم يدر في خلدك أنه سيطالبك بثأر الذين ذُبحوا بسيفك أو أُسروا من بلادي؟ لم يسمح الله بوصول عصا الآثمين إلى منطقة الصالحين بسبب أفعالك العادلة، بل مخالفتنا للعدالة كي نعترف بضعفنا ونقتنع بالسير في الطريق التي يرغبها الخالق. وأنت لا تختبر الله ربنا لأن بوسعه رميك مع جموعك في أعماق البحر بخلق أمواج عاتية كما ألقى بفرعون المستبد في أعماق البحر الأحمر وهيّج مياه البحر بعصا موسى وأغرق الجيش المصري. والصليب القادر على كل شيء، الذي قمت بإهانته، يشبه تلك العصا. لذلك، فإن ابتعدت عني وقفلت راجعاً، ستختار ما هو خير لنفسك وجيشك وإلا فقم وحقق ما تنوي القيام به. أما الرب، فإنه سيحقق ما هو خيّر ومرضٍ له ويقوم بدينونته ويُنقذ شعبه ويُبعد عنا مزعجيننا مطأطئي الرؤوس يلفهم العار”.

عندما قرأ القائد الإسماعيلي الرسالة، استشاط غضباً وقام بمحاربة الصرح (الكنيسة) بضراوة ووحشية فقد كان الله قد قسّى قلبه كي يسقط في الشرك الذي يستحقه. أمر جنوده بتجهيز السفن فأُنجز أمره على وجه السرعة وصعد الجميع على ظهرها واقترب من المدينة. وعندما رأى الإمبراطور ليو جموع الجيش الكثيفة كالغابة، أمر بوضع شباك حديدية على السور وإغلاق البوابة الحديدية للقلعة ولم يسمح لأحد بمجابهة العدو لأنه كان ينتظر عون السماء آملاً في الثأر منهم بسبب أفعالهم. أمر البطريرك ومجلس الشيوخ وجميع سكان المدينة مباشرة باصطحاب صليب المسيح الوضّاء دعماً لهم في المعركة. وكان الملك يحمل الصليب الذي لا يقهر على كتفيه مع الجموع التي ترفع صوتها عالياً (إلى السماء) مع الشمعدانات وأضواء الفوانيس مسبحةً وتنشر رائحة البخور الزكية وتسير أمام الصليب وخلفه. وبعد فتح بوابة المدينة، خرجت الجموع ورفعت الصليب على المياه قائلة: “ساعدنا يا مسيح ابن الله ومخلّص العالم”. وبعد توجيه هذه الكلمات إلى السماء ثلاث مرات، غطست الصليب في مياه البحر حيث رُسمت الصورة (الصليب) الإلهية.  فاهتز قاع البحر بشدة بسبب قدرة الصليب المقدس وعلت الأمواج وتحطمت جميع سفن الجيش الإسماعيلي وغرق القسم الأعظم من عناصره في البحر وذاقوا طعم غضب البحر كجيش فرعون وساقت (الأمواج) الباقي إلى بلاد الثراقيين على ألواح خشبية إلى الجهة المقابلة للبحر ووصل بعضهم إلى جزر بعيدة. وكان عدد الجنود يربو على 50,000. أما الذين تخلصوا من هذه التجربة الخطيرة، فقد ظلوا على اليابسة وقرر (الإمبراطور) ألا يعرضهم لضربات السيوف غير الرحيمة، بل أمر بإبقائهم في الحصار كي لا يتمكن أحدهم من الخروج للعثور على الطعام. فظهرت مجاعة كبيرة في صفوف جيشهم بعد أن استهلكوا الخيول والبغال. ثم قاموا بنحر السرايا والخدم وأكلهم لإشباع جوعهم. وكان (مسلم) يتضرع للإمبراطور ليو ويسترحمه لفك الحصار لأن الباقين على الحياة كان عددهم قليلاً.

أما الملك ليو، الذي رأى أن الله أخذ بثأره من أعدائه، فقد أظهر شفقته لهم ودعا مسلماً كي يأتي إليه وذكّره بوقاحته المخزية قائلاً: “لماذا نويت بالهجوم على بلادنا وأباد سيفك جنودي دون رأفة وقمت بأسر سكان مدني؟ إعلم! أن الرب حي بينما أنت فان ولا تستحق الحياة. ولأن دينونتي قد تحققت من قبل الرب، فإن استبدادك كان السبب في بلائك وطالبك بدم الأبرياء. لذلك، فإنني لن أرفع يدي عليك أو أحاكمك حسب ما تستحق. إنك بين يدي وبوسعي قتلك أو منحك الحياة لكنك لن تموت بل إذهب واروي حول معجزات الله الكبيرة التي كنت شاهد عيان عليها”.

رد مسلم على الإمبراطور فقال: “ماذا بوسعي أن أقول وخاصة إنني لا أستحق الحياة وآثامي التي اقترفتها تجاه بلدك عديدة. لكنك أظهرت شفقة كبيرة في إبقائي حياً وخاصة إنني اعترف شخصياً بأخطائي. وبما أن الرحمة ظهرت في قلبك تجاهي، أرسلني إلى بلادي وأعدك بألا أقوم بمحاربتك بعد الآن قط”.

أمر (الإمبراطور) بتلبية رجائه فامتطى ظهر سفينة وعبر المتوسط بحذر وقفل عائداً إلى بلاده يلفه خزي كبير وكان سكان المدن المختلفة يستقبلونه بالنحيب والعويل بصفعه على جبينه وذر الرماد على رأسه. أما هو، فقد كان يلتقي بهم خجلاً ومطأطأ الرأس ويسمع منهم عتابات عديدة صامتاً دون أن يقدم لهم رداً خلا قوله لهم: “لم يكن بوسعي محاربة الرب”. وذهب بعد ذلك إلى داره ولم يربط السيف على خاصرته حتى يوم وفاته.

الفصل الحادي والعشرون

عيّن الأمير الإسماعيلي هاشم (هشام-المترجم) في ذلك الوقت مروان بن محمد (حاكماً) للأمة الأرمنية عوضاً عن سيت الذي يدعى الحرشي. وعندما وصل مروان إلى دبيل، استقبله الأمراء الأرمن فتحدث إليهم بكلمات سلمية واستدعى آشوت بن فاساك من السلالة البقرادونية ومنحه منصب بطريق بلادنا أرمينيا بأمر هشام وكرّمه كثيراً. أما أبناء سمبات (97)، وبعد أن علموا بالتكريم الذي حصل عليه وصعود مكانته لدى هشام والقائد مروان، ملأ الحقد الكبير أفئدتهم حتى وصلت خلافاتهم إلى مسمع ابن محمد (مروان) فأمر هذا باعتقالهم مباشرة وبعث كريكور ودافيد إلى الأمير الإسماعيلي، وكانا من عائلة الماميكونيانيين، وكتب عنهما إدانة بأنهما عاصيان لا يخضعان لسلطة آشوت. فأمر الأمير بنفيهما إلى بلاد تسمى اليمن التي هي صحراء وإبقائهما رهن الاعتقال في السجن حتى نهاية حياتهما.

عندما تعززت سلطة آشوت، اتجه إلى الأمير الإسماعيلي بسبب أحوال بلادنا القاسية لأن (الخلافة-المترجم) لم تدفع مرتبات الأمراء والفرسان الأرمن طوال 3 سنوات. فحضر أمام هشام وتحدث معه بحكمة ووقار فأكرمه هذا حسب ما هو متّبع وحقق طلبه وأمر إعطاءه 100,000 (درهماً) عن كل سنة (98). بعد ذلك، وطوال سنوات حكمه، كان مبلغ الفضة المخصص يصله دون عراقيل من أجل جميع الفرسان.

شروحات:

(94) اجتياح مسلمة 717-718م عندما قام بتطويق عاصمة الإمبراطورية براً وبحراً. وقع العرب في ضائقة كبيرة للحصول على الغذاء فتقهقروا بعد تكبد خسائر فادحة جراء هجوم البلغار عليهم من الخلف. ومن الغريب، أن غيفوند يذكر الاجتياح العربي في عهد هشام ومن المحتمل أنه دوّن هذه المعلومة من مصدر شفهي.

(95) مجلس الشيوخ البيزنطي كان يدعى السينكغيدوس.

(96) أصبح آشوت بقراتوني أمير الأرمن في عام 732م وحكم حتى عام 748م. ويبدو أنه كان هناك فراغ قبله مدة 5 سنوات لعدم صعود أي فرد على كرسي الحكم بعد وفاة سمبات بقراتوني في عام 727م.

(97) بقوله أبناء سمبات، يعني غيفوند الشقيقان كريكور ودافيت والماميكونيانيين بشكل عام. لعب الماميكونيانيون، بدءاً من سقوط المملكة الأرشاكونية وحتى القرن 7 م (في القرن 5 م فاردان وفاهان وفي القرن 7 م هامازاسب وكريكور) كأكبر الأمراء الإقطاعيين في أرمينيا وفي الوقت ذات كقادة للجيش ومرزبان البلاد وبطارقتها، دوراً استثنائياً في حكم البلاد. وبعد أن كافح الأمراء السيونيون (فاساك وجديهون وغيرهما) ضدهم طوال القرنين 5-6م من أجل المناصب الأولى، فضّلوا الانفصال عن أرمينيا في عام 571م وإقامة حكمهم عوضاً عن الخضوع لحكم الماميكونيانيين. وبعد حرب طالت عشرين سنة 572-591م، نزل البقراتونيون إلى الساحة كمنافسين رئيسيين للماميكونيانيين. إلا أن المنافسة الحقيقية بدأت في نهايات القرن 6 م وبدايات القرن 7 م في عهد سمبات بقراتوني والمرزبان فركانا. ومنa الشخصيات البارزة في القرن 7 م فاراجتيروتس والبطريق آشوت 685-689م. وصلت منافسة البقراتونيين والماميكونيين إلى ذروتها في القرن 8 م وكان الماميكونيانيون يشعرون أنهم بدأوا يفقدون مواقعهم المتقدمة في أرمينيا تدريجياً. وما حركات كريكور ودافيت المتطرفة سوى انفجارات ميؤوس منها ضد البطريق آشوت المنافس القوي.

(98) كما يظهر، لم تكن العهود، التي قدمها الحاكم عبد العزيز 706-709م، تنظّم حقوق الأمراء في الأرض ومقدار الضرائب فحسب، بل كانت تقرر وضع جيش الفرسان الأرمن. لم يتغيّر عدد أفراد قوات الفرسان الأرمنية بل ظل كالسابق بحدود 15,000 فارس. وبناء على التشريع الإسلامي، لا يحق لغير المسلمين الاحتفاظ بقوات محلية وكانوا يعفون عامة من خدمة الجيش لأنهم يدفعون الجزية وبالمقابل كان يتوجب على الدولة الإسلامية حمايتهم. وكان هذا المبدأ يُعمل به حسب الظروف في مصر وسوريا وما بين النهرين وخاصة أن السكان المحليين من أقباط وسريان كانوا قد حُرموا من السلطة منذ وقت بعيد ومن الحيازة على إقطاعات ولم يكن مسموحاً لهم طبعاً أن تكون لهم قوات وطنية أو فرسان. إلا أن كل ذلك لم يمنع الأقباط والسريان على الاشتراك في الحروب في جيش الخليفة.

لكن الأوضاع كانت مختلفة في أرمينيا لوجود إمارة شبه مستقلة قبل الاحتلال العربي. فبعد احتلال أرمينيا، أبقى العرب على جيش الفرسان الأرمن لأنه كان يشترك في المعارك التي يخوضونها ضد الخزر وبيزنطة. وكان جيش الفرسان يقبض مبلغ 100,000 درهماً سنوياً كي ينفق الأمراء الأرمن عليه وكان مبلغاً زهيداً في الواقع. وكانت هذه القوات تحصل على الأسلحة وتقع مستودعاتها في مدينة دبيل. ومثالنا على ذلك، أن القائد أرتافازد ماميكونيان حصل على أسلحة وآلات حربية بعد مجيئه إلى مدينة دبيل أثناء ثورة 774م. لكن الخلافة لم تحترم واجباتها دائماً، وكان الخلفاء الأمويون والعباسيون يرفضون دفع هذه الكمية من الفضة سنوياً.

Tritton, The Caliphs and their non-muslim subjects, London-1930, p.18-36.

المصدر: “تاريخ غيفوند”، المؤرخ الأرمني من القرن 8 ميلادي، ترجمه عن الأرمنية: الدكتور ألكسندر كشيشيان، حلب 2010، والتي ينشرها موقع (أزتاك العربي للشؤون الأرمنية) تباعاً.

Share This