كتاب “تاريخ غيفوند”، المؤرخ الأرمني من القرن 8 ميلادي (10)

 

الفصل الرابع والثلاثون

سأروي هنا حول الشرور الوحشية التي قام بها الإسماعيليون.

عندما رأى أمراء أرمينيا الخطر الرهيب المحدق فوق رؤوسهم، بادروا إلى تحقيق شيء ليس بوسعهم إنجازه بسبب عددهم القليل وخاصة أنهم آثروا على الموت ببسالة عوضاً عن الاستمرار على حياة مليئة بالفواجع فقاموا بثورة ورفضوا الخضوع لإسماعيل. قامت هذه الأحداث في البداية على يد أرتافازد من عائلة الماميكونيانيين الذي اتجه إلى العاصمة دفين (دبيل حسب لفظ العرب-المترجم) وجهّز جيشه بشكل جيد وحصل على السلاح وأعتدة حربية وبدا مخلصاً لجيوش الإسماعيلي ويرغب في محاربة أعدائه.

ابتعد عن محيطهم ووصل إلى قرية كومايري في مقاطعة شيراك وقتل الجابي الرئيسي وحمل كل ما لديه ثم توجه نحو أطراف بلاد الجيورجيين مع عائلته مصطحباً عدداً كبيراً من أمراء بلادنا. فوصلت الأخبار إلى مدينة دبيل أن أولاد هماياك اقترفوا جرماً مُراً كهذا فجمع محمد جيشاً كبيراً على وجه السرعة (واصطحب) سمبات بن آشوت، قائد الأرمن، وبعض الأمراء ولاحقهم ووصل حتى مقاطعة بلاد الجيورجيين التي تدعى سامتسخيه (128) واحتل المضائق واستولى على قسم من الغنيمة وسدد إليهم ضربات حتى هربوا من بلاد الأرمن. أما هم، فقد التجأوا إلى بلاد اليكيريين (129) واستلم هو (أرتافازد) حكم بلاد اليكيريين كذلك فيريا أو فيرك.

اغتاظ الحاكم (القائد) حسن بسبب هذه الأحداث أكثر من السابق وأرسل أشخاصاً إلى جميع مناطق سيادته على وجه السرعة وأمر بجمع الجزية باللجوء إلى أعمال الشدة فازداد أنين بلادنا كثيراً من ممارسات الجباة لأن تعدين الفضة في بلادنا أرمينيا كان قد توقف كاملاَ. وعند هذا الحد، امتلأ صدر أحد الأمراء بغضب عارم وهو موشيغ بن هراهاد من عائلة الماميكونيانيين فجذب إليه بعض أمراء البلاد وخرج عن طوع الإسماعيلي ووجد بعض أبناء إسماعيل في مقاطعته كانوا يطالبون بتعويض لدم المقتولين من بني قومهم فقام باعتقالهم وقتلهم بالسيف ثم انتقل إلى قلعة أرتاكيرس مع عائلته.

اتجه موشيغ مع 260 شخصاً إلى مقاطعة باكريفاند في ذلك الوقت. وبعد اعتقال الجباة مع (رئيسهم) المدعو أبو مجور ومَن في صحبته، قتلهم جميعاً بالسيف. وهكذا، توقفت عمليات الجباية في جميع مناطق بلادنا في الوقت ذاته. عندما وصلت (الأمور) إلى هذا الحد، اجتمعت لديه الجموع التي تشعر بالأسى والعذاب. بعد ذلك، قام الأعداء ضده في كل حدب. وكان 200 من أبناء الإسماعيليين قد وصلوا إلى مدينة كارين (قاليقلا حسب لفظ العرب-المترجم) مدججين جيداً بالسلاح فقام ليلاً واتجه نحو قرية خارس على رأس بعض المقاتلين القليلين، حيث كانوا قد عسكروا في كرم، فطوّقهم وهدم جدران المزرعة الضعيفة المصفوفة مدامكها دون ملاط وفطس العديدون منهم تحت أقدام الخيول المرتعدة بسبب جلبة سقوط الأحجار فقام موشيغ بجمع الأسلحة والغنائم والخيول وجميع الأعتدة الحربية ووزعها على قواته ثم اتجه نحو قلعته.

عندما وصلت أنباء هذه المأساة إلى دبيل إلى القائد الإسماعيلي محمد، سمع أصوات استهجان عديدة من كل حدب وقام بجمع قواته في مدينة دبيل وسلم قيادتها لقائد يدعى أبو نجيب للثأر من أجل دماء المقتولين. اصطحب القائد 4,000 فارساً من المُنتخَبين وعبر الطريق الملكية بحذر ووصل إلى قرية باكافان في مقاطعة باكريفاند. جاء موشيغ إليها أيضاً مع حوالي 200 من مقاتليه واصطدم الطرفان ووصل الرب بسرعة لمساعدة قوة موشيغ وبعد توجيه ضربات عديدة أبادوا الجيش المعادي ثم عادوا من حيث أتوا محملين بغنائم العدو الكبيرة. أفلح العدد القليل من المقاتلين العرب في الفرار والوصول إلى مدينة دبيل فتظاهر ضدهم الرجال والنساء واستقبلوهم بالبكاء والنحيب وذرّ التراب على رؤوسهم وضرب جبهاتهم وتمزيق ثيابهم وملأ صراخهم وعويلهم شوارع المدينة الواسعة. ودبّ ذعر كبير بين قوات الساراكينوسيين ولم يتجاسر عناصرها للخروج من المدينة بل لجأوا إلى حمى تحصيناتها.

عندما أيقن أمراء أرمينيا بنجاح هذه العمليات، انضم الجميع بثقة إلى ذلك الرأي غير الحكيم اعتقاداً منهم أن حكم الإسماعيليين قارب على الانتهاء وخاصة بعد أخذهم مشورة أحد الناسكين المتوحدين (130) الذي قام بتضليلهم والتنبؤ بألفاظ خرافية باطلة قائلاً: “حلّت ساعة خلاصكم لأن عصا الملكية ستعود إلى سلالة بني طوركوم (الأرمن-المترجم) للثأر من أمة إسماعيل. أما أنتم، فلا ترتعدوا منهم بسبب قلة عددكم، لأن الواحد منكم بوسعه أن ينتصر على الآلاف منهم والإثنان على عشرات آلاف لأن الرب هو الذي سيخوض حربكم فاثبتوا ولا ترتعدوا”.

كان هذا يروي حلمه الكاذب لكن المحبب في النفوس يوماً بعد آخر فآمن جميع هؤلاء وكانوا ينعتونه بـ (النبي) المتبصّر. صدّق هؤلاء هذه الكلمات الكاذبة فأثاروا القائد الكبير آشوت بن سمبات للموافقة على تلك المشورة فخان أفكاره الثابتة التي لا تقهر مكرهاً وسار خلف ذلك الرجل المضلل الأحمق.  أما جميع أمراء أرمينيا، فقد اجتمعوا في مكان وأقسموا وتعهدوا على العيش أو الموت سوية. وصل عدد المجتمعين إلى 5,000 شخص بفضل انضمام العامة من الشعب إلى قواتهم. ثم توجهوا من هناك لمحاصرة مدينة ثيودوبوليس، أي مدينة كارين، (قاليقلا حسب لفظ العرب-المترجم)، وقاموا بتطويقها وهم يشنون عليها هجمات طوال فصل الشتاء بتنصيب الأبراج وخرق الأسوار من الخارج وفتحوا فيها كوات لكنهم لم يتمكنوا من عمل أي شيء خلا قتل بعض سكان المدينة بأحجار المنجنيقات. أما آشوت بن الأمير ساهاك من عائلة الأمراء البقراتونيين، الذي كان يتمتع بملكة الحكمة، لم ينضم إلى هذا العمل المضرّ الذي يمكن أن يسبب الويلات، وكان بدوره ينصحهم في هجر مشورات الناسك المضرة والانتباه إلى أرواحهم وعائلاتهم قائلاً: “أنتم يافعون وأصغر سناً وليس بوسعكم مقاومة التنين المتعدد الرؤوس لأنه عظيم القوة ولديه (قوات) جرارة بين يديه وزاد لا يحصى من السلاح في مستودعاته. وجميع الممالك، التي قامت ضد سيادته، تفتتت كجرة الفخراني ولم يكن بوسع مملكة الروم أيضاً رفع يديها، بل ارتعدت أمامه مرتجفة ولم تتجاسر في معارضة المشيئة الربانية. أنتم بدوركم على يقين من قوة ملك الروم الكاملة وبسالته الشخصية وجموع جيشه الكبيرة واستعداداته إلا أنه لم يدر في خلده قط اغتصاب بلادنا أرمينيا من بين يديه. هذا هو قسطنطين بن ليو الذي صارع في يوم من الأيام الحيوانات الكاسرة الرهيبة وقتل الأسد كالجدي الصغير. هذا الشخص، الذي يملك كل هذه القوة، غُلب على أمره من رعب المفترس السام. أما أنتم، فعلى مَن تستندون أو كيف يمكنكم مقاومة سلطته التي لا تُقهر وبأية قوة؟ لذلك، فإنْ تحلو لكم مشورتي إسمعوا لأنني أجد فيها منفعتكم ومصالحكم وهدوء بلادنا و(للمشكلة) مخرجان: عليكم العودة وإطاعتهم والعيش بهدوء وسلام في بلادكم أو الفرار والابتعاد عنها مع عائلاتكم وترك إرث آبائكم خلفكم: مواقع سكناكم وغاباتكم وحقولكم وقبور آبائكم والاتجاه إلى ملك الروم والعيش كغرباء. وحتى في حال عدم سقوطتكم مباشرة بين يدي مزعجيكم وإنهاء حياتكم بموت زؤام، فإنني أعلم بعادات الأمير الإسماعيلي الكافرة جيداً وخاصة أنه لن يتراجع حتى يأخذ بثأره”.

لم يقبل هؤلاء بنصيحته المفيدة، بل استهزأوا به واعتبروا مشورته مكراً فقد كانوا قد آمنوا جداً بكلمات ذلك الرجل الدجّال الضالة الذي كان يحثهم كل يوم بالثبات بقوة على العمل الذي تم اقتراحه وألا يتوهوا بسبب التردد. وظهر إفلاس عنادهم، الذي لا يمكن تقويمه، بسرعة حول المشورة الحمقاء لأنهم تفرّقوا عن بعض: ظل أمراء عائلة الأردزرونيين هامازاسب وأشقاؤه وجيشه في باسفرجان كذلك بقي فاساك بن آشوت وأفراد عائلتي الأماتونيين والدرونيين وبعضهم في قلعة قرية تاريونك ووادي ماكو والبعض الآخر في وادي آراكيغت يطوف في المقاطعات المجاورة لتأمين الحاجات الحياتية ثم كانوا يعودون إلى تحصيناتهم.

أما القوات الطاجيكية، التي كانت في مدينة دبيل، فقد اجتاحت المقاطعات المجاورة وقامت بنهبها وإهراق الدماء في قرى بدغونك وطالين وكوغب وغيرها من المواقع العديدة وقُتل العديدون بالسيف.

عندما حل فصل الربيع، شكل الأمير الإسماعيلي جيشاً لإرساله إلى بلاد الأرمن وجمع 3,000 من فرسانه المنتخَبين بخيول وتسليح جيدين وسلّمه إلى قائد يدعى عَمر وودعه من تلك المدينة الواسعة الشهيرة التي تدعى بغداد كان عبد الله ذاته قد شيدها بعد إحاطتها بسور حصين وقوي لدرء الخطر عنها. تحرك القائد من موقعه ووصل إلى بلاد الأرمن عبر سوريا ودخل إلى مدينة خلاط (أخلاط حسب لفظ العرب-المترجم) بحذر كبير بعد تجهيز الأسلحة. وعندما أصبح داخلها، استفسر من السكان حول أوضاع جيش الأرمن: عن عدد عناصره وقواده وهل هم على وفاق وبواسل أم لا وهل تسليحهم جيد أم لا؟ وبعد الحصول على تلك المعلومات، قام بترتيب قواده حسب تلك المعطيات.

أما آشوت بن ساهاك، الذي كان في المدينة، فقد أعلم أمراء الأرمن حول وصول الأعداء وطلب منهم الاجتماع في مكان معين كي يعيشوا معاً أو يموتوا سوية. لكن، بدت معلومات رسالته إليهم غير معقولة معتقدين أنه يرغب في إعتاق حصار المدينة (كارين) بخيانة ماكرة كي يُظهر إخلاصه للإسماعيليين. وبسبب هذا التفكير لم يقبلوا بكلامه، بل كانوا يفكرون في تحقيق مشروعهم السابق. وبعد ذلك، جمع الأمراء هامازاسب وأشقاؤه، من عائلة الأردزرونيين، جيش بلاد باسفرجان كذلك أمراء عائلة الأمادونيين جيشهم ودعوا فاساك بن آشوت، شقيق القائد سمبات من عائلة البقراتونيين، وجيشه لدعمهم وتحركوا نحو ناحية آرجيش لتدميرها حتى أساساتها وقتل جيشها بالسيف. وعندما وصلوا إلى قرية بيركري في مقاطعة أربيران، انتظروا كي يصل الباقون وتمكنوا من جذب العديد من العامة للاشتراك معهم في الحرب كمشاة. وبينما كانوا يستعدون لتحقيق المشروع، وصلتهم أخبار على وجه السرعة حول جيش إسماعيل فقد جاء أحدهم وروى لهم أن جيش أبناء إسماعيل وصل وهو ينتظركم. لم يصغِِ إليه زعيم عائلة السيونيين هامازاسب، بل قام بتعذيبه بالضرب بحجة نشر الإشاعات وبخيلاء كبير اتجه بجيشه ضد ناحية أرجيش. وعندما دنوا من البلدة، أعلم سكان مدينة أخلاط عَمْراً حول وصول الأمراء الأرمن. فتقدم مع جموع قواته ونصب كميناً في قرية آرجيش. وبينما كانت قوة الأرمن تكافح ضد القلعة، خرج المتوارون من المخابئ وهاجموا الجيش الأرمني وأكرهوه على الفرار وقُتل معظم المشاة من العامة الذين كانوا عراة ودون أسلحة أو خبرة في الحرب. أما الباقون، وبسبب خوفهم من القدر الغامض، رموا بأنفسهم في مياه النهر وماتوا غرقاً. قُتل من الأمراء 4 أشخاص: ثلاثة منهم من عائلة درونياتس والرابع من قرية أوردزا وقُتل من جموع العوام 1,500 شخصاً. أما الباقيون، فقد لجأوا إلى الفرار وبالكاد تمكنوا من إنقاذ أرواحهم. جرت تلك الفاجعة الشريرة الجهنمية في الرابع من شهر هروديتس المصادف ليوم السبت (25 نيسان). وقد لاحق الأعداء جيش الأرمن حتى المكان الذي يدعى قرية داي ثم توقفوا عن ملاحقته وجرى احتفال كبير في معسكرهم.

كانت بلادنا أرمينيا في عذاب أليم في هذا الوقت بينما كان الأعداء الكفار في حال من الاغتباط والفرح. وبعد استراحة قصيرة، عادوا للهجوم واتجهوا نحو الطريق الملكية عبر أباهونيك ووصلوا إلى قرية أردزني في مقاطعة باكريفاند وعسكروا هناك قرب شاطئ النهر الذي كان يجري من خلالها. وكان بينهم جميع أنواع مهنيي الأسلحة الذين كانوا يصنعون أسلحة الحرب والأعتدة المختلفة.

أما القوات التي طوّقت مدينة كارين، فقد أوصلت (سكانها) إلى اليأس لأن الجوع فيها كان قد اشتد وكانوا يستعدون لتسليم المدينة لهم. لكن، وعندما وصلت أنباء اندحار القوات (الأرمنية) إلى مدينة كارين، عندئذ فقط يئست قوات الأرمن المقاتلة ورفعت الحصار عنها. ورغم إمكانية الاتجاه إلى طرف الروم وإنقاذ أرواحهم من المستبدين الأشرار، آثروا على الاستشهاد عوضاً عن ضياع البلاد ومشاهدة تحقير كنائس المسيح. ومع أن عددهم كان قليلاً مقارنة بالأعداء، فقد لجأوا إلى العذاب طوعاً وجمعوا قواتهم، التي يصل عدد محاربيها إلى 5,000 شخص وابتعدوا عن مدينة كارين وعبروا حدود باسين نحو مقاطعة باكريفاند. وبعد عبورهم نهر أرادزاني (من فروع الفرات-المترجم) مباشرة، قاموا بمهاجمة العدو ببسالة بعد وضع ما يملكون مع حيواناتهم على بعد 2 أسباريز (مقياس أرمني يعادل ميل واحد-المترجم) من المكان وجهزوا أنفسهم لمحاربة العدو كمشاة. وقامت قوات العدو بدورها باستعدادات عديدة جداً.

بعد شروق الشمس مباشرة، بدأت المعركة. وعندما تصادم الطرفان، سدد جيش الأرمن ضربات قوية في البداية وأكره الأعداء على الفرار وقتل العديدين منهم. (لكنهم) استردوا رص صفوفهم وعادوا وملأوا قلوب العامة من المحاربين بالهلع واضطر بعض الأمراء والفرسان على الهرب مع مقاتليهم وقُتل العديدون من الآخرين وانتشرت جثثهم على الساحة.

أما الشهداء الأبطال، ورغم أن عددهم كان قليلاً، إلا أنهم لم يرتعدوا في لحظة القدر المُرة، بل اجتمع الكل متراصين وكانوا يشجعون بعضهم بالكلمات التالية: “لنمت ببسالة من أجل بلادنا وأمتنا كي لا نرى بأم أعيننا تحوّل مواقعنا المقدسة وأمكنة تمجيد الرب موطئ قدم وتنجيسها ولتتوجه سيوف الأعداء ضدنا أولاً ثم ليعملوا ما يرغبون. لنضحّي بأنفسنا من أجل الإيمان الحقيقي لا لمحبة الحياة الدنيوية لأنه توجد حياة أبدية مقابل هذا الموت المؤقت”. بهذه الكلمات التشجيعية رفعوا عيونهم نحو السماء طالبين من العلي القدير المساعدة قائلين: “إلهي!, وجّه نظرك إلينا واهرع لنجدتنا وليخجل هؤلاء كثيراً الذين يطالبون بأرواحنا. أما نحن يا رب، فإننا نلفظ اسمك في محنتنا ونمجده لأن الأشرار الذين لا يمكن إحصاء عددهم يبقوننا في الحصار ويدنو منا مخاض الموت”.

قوي عودهم بعد ذلك بمساعدة الرب ولم يتراجعوا عن قرارهم السابق رغم أن عددهم لم يتجاوز الـ 1,000 شخصاً مقابل الـ 30,000. وكما علمنا من الأعداء، قالوا أن الملائكة التي ظهرت لهم بهيئة بشر كانت تحارب إلى جانبهم (الأرمن). كان (الأرمن) يثأرون من الأعداء بقتلهم دون رحمة حتى تعبت أيديهم من ثقل الأسلحة فسقط بعضهم وودعوا الحياة الفانية أملاً في الحياة الأبدية. وكان هؤلاء الشهداء البواسل المرموقون من القادة هم: القائد سمبات وساهاك من عائلة البقراتونيين والقائد موشيغ وزعيم عائلة الماميكونيانيين وغيرهم الذين ليس بوسعي تعداد أسمائهم الواحد بعد الآخر. سقط حوالي 3,000 شخصاً على الساحة وكانت وفاتهم تبعث على الآسى ولم تسعهم الأرض كي يواروا في جوفها بل ظلوا في العراء تحت الشمس والغبار والأمطار والزوابع.

اشتد البكاء والنحيب في ذلك الوقت في بلاد الأرمن لأن الزعماء الكبار والقواد المبجلين اختفوا في لحظة واحدة ووقعت البلاد في حزن عميق وكانت تنتحب لنهاية المقاتلين البواسل الذين سقطوا بين أيدي العدو المتوحش الذي لا يعرف الرحمة.

الفصل الخامس والثلاثون

أما الأعداء، فقد اجتاحوا باكريفاند والمقاطعات المحاذية لها وسببوا رعباً شديداً لسكانها. وكانوا يتطلعون بعناد لتدمير معابد الصلاة وإفساد قدسية كنائس المسيح ويحطمون صلبان المسيح المنوّرة التي أقيمت كملجأ وفيء أمام المداخل والمخارج (للكنائس) (132) ثم يضرمون النار فيها لإزالتها من الوجود. وكان الأعداء يتعاملون أيضاً بوحشية شرسة مع القسس والناسكين الموحدين وموظفيهم كمحرضي الشهداء (العصاة) في الحرب ومرشديهم. إلى جانب ذلك، كانوا ينهبون آنية الكنائس في مواقع عديدة وذخائر قديسي الله. وعندما اغتنت هذه القوات الطاغية بتلك الأسلاب المسروقة من بلاد الأرمن، هاجمت القلاع واحتلتها وتعهدت لقاطنيها واللاجئين إليها بعقد سلام معهم بإعطائهم كتاب أمان وعهد بعد النزول من تلك التحصينات.

كأنه (القائد عَمر) حصل على انتصار كبير ومجيد، ابتعد عن بلاد الأرمن واتجه إلى بلاد الفرس رغبة منه لمقابلة الأمير الإسماعيلي كي يحصل على أجر لقاء خدمته المخلصة له. لكن، نزلت عليه دينونة الرب العادلة ففطس في بلاد فارس جراء آلام مبرحة شديدة واستحق عن حق الثأر لأنه كان قد أهرق دماء السكان الأبرياء فلقي عقاب الله ومات بسيفه غير المنظور وهو أمضى سيف يخترق الروح والنفس والمفاصل والأدمغة. بهذا السيف، ثأر (الرب) لقاء دم أبنائه وأعطى المكروهين من قبله ما يستحقون وطهّر أرض شعبه وصان أمته وأبعد العصا عنها وأضحى الناس في أمان ثانية في مواقع سكناهم.

الفصل السادس والثلاثون

أرسل الأمير الإسماعيلي في ذلك الوقت قائداً (حاكماً) جديداً لبلاد الأرمن يدعى يزيد عوضاً عن حسن. أما هو، عبد الله، وبعد أن حقق جميع نياته الشريرة وبسبب مرضه في حب الفضة، تعرّض للعنة النبي ففطس في السنة ذاتها قانطاً…

الفصل السابع والثلاثون

خلفه في الحكم بعد ذلك ابنه محمد المهدي.

كان هذا شخصاَ نجيباً وبأخلاق حميدة مقارنة بوالده (138). شرّع أبواب الخزائن المغلقة من قبل عبد الله الكافر الزنديق واسعةً، ووزع الهدايا لجيشه. أمر بفتح الحدود المغلقة كي يتمكن التجار بيع سلعهم وتأمين المحتاجين فازدهرت البلاد وسَهُل العثور على الفضة وارتاح سكان البلاد من الجباية بالإكراه والتعذيب. ورغم زيادته لوزر مبالغ الجزية، وبما أن الفضة متوفرة، استراحت البلاد بعض الشيء من العذابات المريرة وظهرت في عهده تلال (مناجم) من الفضة في بلاد الأرمن وبُديء بضرب نقود صافية من هذا المعدن (134) لتلبية حاجات الناس.

أما هو، محمد، فقد باشر في تهديد حكم الروم وجمع جيشاً وعين شقيقه عباس قائداً وأرسله إلى بلادهم. وعندما فطس عبد الله، توفي الإمبراطور قسطنطين في السنة ذاتها فخلفه ابنه ليو. وبينما كان الخليفة يفكر في اجتياح بلاد الروم، أرسل الملك جيشاً كبيراً ضد باسانستان التي كانت تدعى بيشان. فعين الإمبراطور ثلاثة قادة للجيش: إثنان منهم من أمراء أرمينيا أحدهما يدعى تاجات، من عائلة الأندزيفاتسيين، والثاني أرتافازد من سلالة الماميكونيانيين. أما الثالث، فقد كان أحد قادة الروم. تحرك القادة الثلاثة بجيوش جرارة ووصلوا إلى نواحي كيليكيا وبيشان واجتاحوا البلاد واحتلوا مدناً ومقاطعات وقرى عديدة وحولوا كل من قاومهم إلى تراب واصطحبوا معهم جموعاً كبيرة جداً من الأسرى يربو عددهم عن 150,000 وساقوهم إلى بلاد الروم وقابلوا الإمبراطور مع الغنائم الكبيرة فاستقبلهم بمدائح كبيرة وأكرم القادة بهدايا عظيمة. وسادت الهدنة في تلك السنة.

شروحات:

(128) سامتسخيه إحدى مناطق شرقي جيورجيا وهي منطقة أخالكالاك الحالية.

(129) بلاد اليكيريين هي كوغكيس اليونانية القديمة. لم تكن ضمن الخلافة العربية في القرنين 8-9م بل كانت خاضعة لبيزنطة إلى حد ما.

(130) من عادات هذه المنطقة اللجوء إلى نبوءات الناسكين المتوحّدين وكان الثوار في عام 703م وأثناء الثورة طلبوا مشورتهم. وكان الناسك أثناء الثورة يدعو لإعادة إقامة المملكة الأرمنية المستقلة بينما يعتبرهم غيفوند دجالين ممسوسين بالشيطان وكلماتهم باطلة ومخادعة.

(131) يعادل الشهر الأرمني 19 هرودا  25 نيسان.

(132) كانت الصلبان الموضوعة قرب مخارج الكنائس ومداخلها ظاهرة عادية في القرون الوسطى. أكتُشفت صلبان حجرية أثناء تنقيبات مدينة دبيل. ويظهر أن الصلبان التي ذكرها غيفوند مصنوعة من الخشب بسبب حرقها.

ـ ك. غافاداريان، مدينة دبيل وتنقيباتها، يريفان-1952، صور ص 150-151.

(133) لم تكن كلمات المديح التي كالها غيفوند عن المهدي بسبب الانطباع الحسن الذي تركه بعد استبداد المنصور الشرس، بل لتبنيه سياسة لينة في الحقيقة. ورغم صمته المطبق حول وحشيات المنصور، أكد اليعقوبي المؤرخ العربي من القرن 9 م أنه جرى تخفيف قسوة السياسة العباسية في عهد المهدي. ويعود السبب إلى أن سياسة المنصور القاسية كانت قد استهلكت قوة البلاد. وبما أن الحكم كان مستقراً، فلم تكن هناك حاجة لضغوطات جديدة.

(134) ظهرت النقود العربية للمرة الأولى في عهد الخليفة الأموي عبد الملك 685-705م وكانت الدنانير الذهبية البيزنطية والدراهم الساسانية الفضية تستخدم في الخلافة حتى ذلك الوقت. وفي عهد هذا الخليفة بالذات، اتخذت النقود العربية شكلها النهائي حيث نجد على وجهيها آيات قرآنية وأسماء الخلفاء وفي بعض الأحيان الحكام مع تاريخها بالهجري والمدينة التي ضربت فيها. وكانت النقود العربية مشكلة من الدينار الذهبي والدرهم الفضي والفلس النحاسي. ويشهد المؤرخون العرب بدواعي ضرب النقود العربية الصرفة بالحادثة التالية: كان الخلفاء العرب يضعون شعار “لا إله إلا الله محمد رسول الله” مما أغضب إمبراطور الروم جوستنيانوس وطلب منهم عدم كتابة هذه الكلمات مهدداً أنه سيكتب كلمات مسيئة للرسول محمد. فقرر عبد الملك نهائياً إصدار نقود عربية صرفة.

ـ ابن الأثير، الجزء 4، ص 53-54.

شهد المؤرخ البيزنطي ثيوفانس أن جوستنيانوس لم يقبل بالنقود العربية الأولى بينما كان عبد الملك يطلب منه قبولها انطلاقاً من أوزانها.

المصدر: “تاريخ غيفوند”، المؤرخ الأرمني من القرن 8 ميلادي، ترجمه عن الأرمنية: الدكتور ألكسندر كشيشيان، حلب 2010، والتي ينشرها موقع (أزتاك العربي للشؤون الأرمنية) تباعاً.

 

Share This