الفنان المصري الارمني فاهان تلبيان

مقال العدد 15 اغسطس من جريدة “القاهرة “فى صفحة “أتيليه” عن أحد  أهم أعمال الفنان “فاهان تلبيان”المنتميه لفن الأرض .. وقد أسميتها  “حديقة المناظر الطبيعيه الجافه ” ..

“فاهان تلبيان”.. “فن الأرض” وأوتاد للفراغ :

حديقة المناظر الطبيعيه الجافه

فاطمه على

على شاطئ مرسى علم وبطول 70 متر وعرض 30 متر أقام الفنان “فاهان تلبيان” عمل إنشائى من عشرات من جذوع وسيقان أشجار بعضه مغلف بصفائح ألومونيوم .. أنا لم أرى العمل فى الطبيعه ومن خلال عدة صور من زوايا وأوقات إضاءه نهاريه مختلفه .. وجدت أن الفنان أنشأ ما يُشبه “حديقة مناظر طبيعيه جافه” .. هذه الحديقه الوتديه الجافه  قد تنتهج نهج تبنته أفكار ما بعد الحداثه.. فقد أخرج الفنان الحديقه عن وظيفتها التقليديه لتصبح فكره .. كأفكار فنانى “فن الأرض” فى تعاملهم وعناصر الطبيعه .. هذا ما رأيته فى العمل وأرجو ألا أكون متعسفه ضد فكره أخرى أرادها الفنان .. خاصه و”فاهان” لا يتحدث عن أعماله .. لذلك  قد يراها البعض كما رأيتها والبعض قد يستشعرها أوتاد وعظام الأرض المتحركه .. وفى الرؤيتين هو عمل مرتبط بأعمال إتجاه مدرسة “فن الأرض” الفنية ..

ومن الممتع أن تبدو أعمال الفنان “تلبيان” التركيبية على الشاطئ مثل”حديقة للمناظر الطبيعية الجافة” .. وأيضاً تبدو ذات صلة ما بالفن البدائى .. حتى منحوتاته الحجرية الأخرى أراها تبدو على صله بأحجار “منهير” القديمه بعمر عدة آلاف من السنين..  فهل تنتمى منحوتاته الحجريه والأعمده الخشبيه للفن البدائى ؟.. لا أعرف أن كان “فاهان” متأثر بالأساطير والثقافات البدائيه والتى ربما شكلت مصادر إلهاماته الأولى فى مزيج يجمع بين الحداثة وفكرة الخلود كأعمدته الرفيعه الموحيه بالإستمراريه تجاه الفضاء المحيط كما لو إنها إنطلقت من كتلة الأرض إلى وجود مختلف مقتحمه الفضاء وكأنها محور العالم وهذا مفهوم لدى معتقدات بعض من الثقافات التقليدية القديمة ..

تتفرد الأعمده الخشبيه الرأسيه فى “حديقة المناظر الطبيعيه الجافة” التى تضم حوالى الثلاثين عموداً بأناقتها وببساطة الخامات من سيقان أخشاب الشجر بدرجاته البنيه كما فى الطبيعه وليس من الخشب المصنع أو المصبوغ  لتبدو الأعمده كأوتاد أرضيه  تحمل خصائصها الطبيعية ..وأعتقد أن الفنان فاهان تأثر بمكان معيشته بجوار البحر ليحقق البساطة بالدخول بتلقائيه فى المعنى الحقيقى للأشياء فلا شئ جميل إلا ما هو حقيقي .. ولأراه يعمل بوعى مستخدماً الفضاء والضوء كخامتين يفتح عبرهما لمشروعه المنتمى لفن الأرض وبتداخل عدة فضاءات كمكملين لجوانب العمل  ليصبح المشاهد المار بعمله جزءاً ومغموساً وأيضاً على مسافه بين مساحتى الحركة المفتوحه أرضا وفضاءاً ..

تشكيل الفضاء

.. حديقه “فاهان” الجافة تبدو كسيرة لطبيعه غامضه أقامها الفنان وخبأها بين السياج الوهمية لأعمدة الفضاء وداخله .. واعتقد ان العلاقة بين الأعمده وفكرة القضبان الحديديه المقيده للحريه هى استفزازية وإن لم يقصدها.. إلا أن المشاهد يخوض تجربة لمسار فوق الأرض تحده القضبان وأوتاد الأرض وعظامها .. وأمام صور حديقة “فاهان” وصلنى إحساس بإدراك وهم رؤيه من نقطة معينه بفكرة تشكيل الفراغ وسطوة الصمت وفكرة البوابات وإمكانات التوسع اللانهائى ومحاولة إظهار الحجم القائم فى الفضاء بطريقة غير مجازيه .. وقد عمل فاهان على نوعية الفضاء المُفرط  حوله في كل مكان .. ومراعاة جرح الرياح العابره داخل أداءه الإنشائى التركيبى

بناء النور والظلال

الغرض من أعمال فاهان ليس فقط  تمثيل وساطة النور والظلال أو الفضاء السلبي والإيجابي في علاقة جدلية يتنقل فيها الفضاء بمحتواه الضوئى ليفترض وفرة حضور كى تصبح المشاهدة نفسها جزء من عملية صنع أو إنشاء العمل.. وأعتقد خلال مرور اليوم عبر حديقته الجافة تتغير درجات وكثافة الإضاءة  ليصبح الضوء طوال اليوم عنصر تشكيلى هام بل ومحرك للأعمده وظلالها بل ومانع من أن تبدو تشكيلات مجموعاته تعسفية جامده.. فالمتتبع لمشهد الشكل العمودى بإيحاء نموه فى لحظة كهالة من إنعكاس ضوء شرائح الألومونيوم المغلفه به أخشابه لتبدو كالنور داخل الضوء الضبابى لتكشف فى نفس الوقت عن إيماءات عناصره الشبحية بفعل الضوء المتغير فى فضاء يومي مفتوح لانهائى ..وأعمال “فاهان” هى أعمال زمنيه نتوقعها متغيره تشكيلاتها الضوئية طوال اليوم ومنذ أقامها الفنان.. ولتبدو أيضاً إنشاءات تركيبيه تترجم أو تحول العلاقه المكانيه إلى حركه زمانيه .. وربما بطريقة ما وبزاوية جانبيه قد تلغى الأعمده بعضهم البعض في لحظة واحدة  ليبدو أن الزمان والمكان غائبين وفي حالة توقف تام كما أن الإيحاء بالمشى بين أعمدته فى طريق ملتوى.. وكنت أتمنى تجربته وهذا أفضل من مجرد رؤيته.. لتكون لتركيباته بيئتها ومساحتها الخاصه الموازيه للبيئه خارجها التى تم إنشاؤها داخلها.. والمشاهد لا يمشى أمام أو حول حديقة فاهان فلأن العمل هيكل بنائى مفرغ فالمشاهد يتخلله كى يلحظ التغيير الذى يتقاسمه الفضاء حوله مع طبيعة الأرض فكل خطوة يخطوها المشاهد نحو العمل تضعه على أرض متحركة فى مراوغه بين هيمنة الفضاء وغموض الأعمده المتجهة للسماء التى تبدو بشكل ثابت ومتحرك فى نفس الوقت وقد إعتمدت على حركة المشاهد بينها لتتمثل الحركه .. وليبدو كأن المجال بكامله يتمدد جنبا إلى جنب ذهابا وعودة  كفعل أدائى صامت حتى يبلغ نقطة الإختفاء داخل حقل الحركة .. فمثلما هناك فى الفعل التجريدى حقول لون كذلك فى الفعل الأدائى حقول حركه وحقول صمت .. وأمواج من الرياح المجروحه المتخلله تلك الاعمده كاوتاد الأرض ..

ووواضح أن لدى الفنان “فاهان” انتقاص عمدى فى مفهوم الكتله يحققه بالإيهام  ليصنع مفاهيمياً الشئ وماديته حتى بتلك الفراغات المنحوتة بين الأعمده .. وأعتقد أن الخامات من أخشاب وشرائح ألومونيوم وتدويرها كخامه لا تتعلق بالمفهوم بل يتعلق الأمر أيضاً بإجتماع المواد معاً داخل فضاء يمكن توسعته وتفرغته ووإمتلائه وتمديده أو تقليصه  بإنشاءات غايه فى البساطه.. بساطة الى حد الادراك السهل بأن الفراغ والامتلاء على هذا النحو جزء من هوية العمل ..

Share This