انفلاش الصراع في القوقاز | نهاية «جمهورية آرتساخ»: أرمن قره باغ بلا موطن

تذكّر هجرة أرمن قره باغ بعبور عشرات الآلاف منهم الأناضول حفاة في اتّجاه الصحراء السورية هرباً من الإبادة عام 1915 (أ ف ب)

محمد نور الدين  الأربعاء 27 أيلول 2023

تشهد منطقة القوقاز تطوّرات دراماتيكية تحمِل على الاعتقاد شبه اليقينيّ، بأن الوجود الأرميني في مقاطعة ناغورنو قره باغ (آرتساخ) قد يواجه خطر الاضمحلال التامّ بعدما ظلّ يشكّل، على مدى عشرات القرون، معقلَ العرق والديانة الأرمينيَّيْن. يجيء ذلك بعد سلسلة وقائع ميدانية أسفرت عن هجرة نهائية من الإقليم في اتّجاه أرمينيا، بعدما كانت مرحلتها الأولى، عام 2020، قد بدأت بالهجرة من مدينة شوشة ومحيطها في اتّجاه قره باغ نفسها، وعاصمتها ستيباناكيرت. ومنذ ذلك الحين، وقوات حفظ السلام الروسية تتولّى أمن الإقليم و”ممرّ لاتشين” المؤدّي إلى أرمينيا.

ولكن بعد الحرب التي شنّها الجيش الآذربيجاني، يوم الثلاثاء الماضي في 19 أيلول، على مَن سمّاهم “عناصر إرهابية مسلّحة” في قره باغ، أعلنت هذه العناصر استسلامها وحلّ نفسها وتسليم سلاحها إلى القوات الآذربيجانية بإشراف المراقبين الروس، وسط أنباء تحدّثت عن سقوط أكثر من مئتَي قتيل في الحرب التي استمرّت لأقلّ من يومَين. وأعقب ذلك اجتماع عُقد، يوم الأربعاء الماضي، في مدينة يفلاخ على نهر كيرا بين ممثّلين عن باكو، وآخرين عن أرمن قره باغ، انتهى إلى تسليم الوفد الآذربيجاني نظيره الأرميني مسودة اتفاق للسلام، على أن يعود الأخير بجواب، فيما عُقد اجتماع آخر، أول من أمس الاثنين، في مدينة إيفانيان (خوجالي). وينصّ الاتفاق المقترح على التسليم الكامل بسيطرة الدولة على الإقليم والاندماج الكامل للمقاطعة بالمجتمع الآذربيجاني، وفقاً لمندرجات الدستور والقوانين في آذربيجان.

غير أن التطوّرات التي أعقبت الاجتماعَين، عكست صورةً بالغة المأسوية في الإقليم. فقد نُشرت صور كثيرة لمشاهد إحراق سكّان قره باغ معظم المؤسّسات الرسمية، وما تحتويه من وثائق وأرشيف ومستندات مهمّة. وشكّل ذلك خطوةً على طريق إخلاء المقاطعة من سكّانها الأرمن، والهجرة الجماعية منها في اتّجاه أرمينيا. ومع ورود أنباء عن هجرة الآلاف، فإن المنطقة قد تخلو – في وقت ليس ببعيد – من سكّانها، على اعتبار أن كامل منطقة قره باغ لا يزيد عدد سكّانها على المئة والعشرين ألف نسمة. وتُظهر المشاهد المنقولة فظاعة ما يحلّ بالأرمن، وكيف تتثاقل أرجل العجائز والأطفال وهم يمضون مشياً أو في حافلات تذكّر بعبور عشرات آلاف الأرمن الأناضول حفاة في اتّجاه الصحراء السورية هرباً من الإبادة التي تعرّض لها أرمن الدولة العثمانية في عام 1915.

وممّا زاد الطين بلّة، أن رئيس الوزراء الأرميني، نيكول باشينيان، والذي يمكن اعتباره “بطل التغريبة الأرمينية” الحديثة، كان قد أدلى بمواقف مستهجَنة بعد حرب قرهباغ الثالثة، من أن بلاده مستعدّة لاستقبال أربعين ألف عائلة قره باغية إذا أتت إلى أرمينيا. ولم يخفّف من وقْع هذا التصريح، موقف باشينيان اللاحق عندما لفت إلى أن تلك هي “الخطّة باء”، و”لكن إذا اضطرّ هؤلاء إلى الرحيل، فسوف تستقبلهم أرمينيا”. وعلى افتراض أن أربعين ألف عائلة ستهاجر، وأن كل واحدة منها مؤلّفة من أب وأم وفرد ثالث فقط، فهذا يعني أن ما مجموعه 120 ألفاً (هم مجموع سكّان قره باغ) سيغادرون إلى الأبد موطنهم الأمّ.

وما يبدو محقّقاً، أن أرمن قره باغ تُركوا اليوم لمصيرهم الفظيع، فيما يتحمّل باشينيان النصيب الأكبر من مسؤولية التهجير، عندما قرأ خطأً أن تغيير البارودة من كتف روسيا إلى كتف أميركا، سيحميه ويحمي الأرمن، فكانت النتيجة أن خسر الأرمن في القوقاز وقره باغ كل ما كان لهم. وفيما كان بإمكان باشينيان أن يستدرك خطاياه السياسية بعد حرب قره باغ الثانية عام 2020 بالعودة إلى التحالف مع روسيا، بدا أنه ينفّذ أجندة غربية بامتياز، عبر إصراره على الانفكاك الكامل عن روسيا واستدعاء الأميركيين إلى مناورات مشتركة، لتكون هذه هي المرّة الأولى في التاريخ التي تطأ فيها قدم جندي أميركي منطقة النفوذ الروسي في القوقاز. وأكثر من ذلك، فصل باشينيان بين أرمينيا وقضيّة قره باغ بالقول إنه لا دخل ليريفان بما يجري، وإنه على القره باغيين “تدبّر رؤوسهم”، ما عنى ضوءاً أخضر إضافياً لباكو لتندفع إلى إنهاء القضيّة الأرمينية في قره باغ، وتصفيتها.

————————————————————————————-

تُرك أرمن قره باغ لمصيرهم الفظيع، فيما يتحمّل باشينيان النصيب الأكبر من مسؤولية التهجير

————————————————————————————-

أما روسيا، فقد حالت بدايةً دون سيطرة الجيش الآذربيجاني على كامل منطقة قره باغ عام 2020، واكتفت بالسماح له بالسيطرة على مدينة شوشة وجوارها. وكانت موسكو بذلك، تمنح باشينيان فرصةً للعودة إلى العمل معها ومحاولة منْح القره باغيين ظروفاً أفضل للعيش، وخصوصاً أن المنطقة كانت لدى تفكّك الاتحاد السوفياتي تتمتّع بحكم ذاتي يَحفظ لها ولو الحدّ الأدنى من الوجود والهوية الأرمينية. غير أن باشينيان كان مصمّماً على تحقيق أحلام أعدائه: ترْك قره باغ لمصيرها الأسود، ودفع نحو تهجير الأرمن من هناك من جهة، وأنهى العلاقة بالكامل مع روسيا من جهة ثانية، وسلّم أرمينيا إلى الحضن الغربي بالكامل لتصبح لاحقاً عضواً في “حلف شمال الأطلسي”، من جهة ثالثة.

في هذا الوقت، يواصل باشينيان تنفيذ أجندته بالعمل على تطبيق اتفاق العاشر من تشرين الثاني 2020 بين أرمينيا وآذربيجان برعاية روسيا، والذي ينصّ على ترسيم نهائي للحدود بين البلدَين، وعلى اعتراف يريفان بسيادة باكو الكاملة على قره باغ، والبدء بفتح “ممرّ زنغيزور” بين نخجوان التابعة لآذربيجان غرباً وآذربيجان شرقاً عبر الأراضي الأرمينية في محاذاة الحدود الإيرانية. أمّا البند المتعلّق بفتح “ممرّ لاتشين” بين أرمينيا وقره باغ، فلن يكون مهمّاً بعد اليوم، إذ لا وظيفة له في ظلّ استكمال تهجير أرمن قره باغ. وقد تجد خطّة باشينيان بدايةَ ترجمة لها في اجتماع غرانادا (غرناطة) في إسبانيا بينه وبين الرئيس الآذربيجاني، إلهام علييف، يوم الخامس من الشهر المقبل، بحضور ورعاية الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، وزعماء أوروبيين آخرين.

وحدها إيران، دعت باكو إلى أن تحترم الوضع الخاص لقره باغ في أيّ ترتيبات جديدة؛ وهي التي تواجه تحالفاً مثلّثاً معادياً لها من آذربيجان، المتحالفة مع إسرائيل ضدّها، وباشينيان المتواطئ مع أميركا، وتركيا التي تضغط بقوّة لفتح “ممرّ زنغيزور” الذي يفصل، حال شقّه، بين إيران وأرمينيا برّاً، ليشكّل ضربةً استراتيجية كبيرة للجمهورية الإسلامية التي حذّرت من مغبّة تغيير الوضع القائم. وفي هذا الإطار، رأى الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، أنه يتحتّم على باكو أن تحترم حقوق الأرمن ووضعهم الخاص في قره باغ وحماية أمنهم وحقوقهم وحدودهم المعترف بها دوليّاً، مبيّناً أن الجيش الإيراني “قويّ، وهو مستعدّ للتحرّك من أجل منْع أيّ تغيير في جيوبوليتيك المنطقة والحدود”.

وكان هذا الأمر على رأس جدول محادثات الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، ونظيره الآذربيجاني، في لقائهما الاثنين في مقاطعة نخجوان، حيث اعتُبر اللقاء احتفالاً بالانتصار الثاني في قره باغ، وبدء مرحلة جديدة من الصراع في القوقاز. من جهتها، لفتت معظم الصحف التركية الموالية إلى أن فتح “ممرّ زنغيزور” سيكون البند الرئيسيّ في المحادثات، وبالتالي سيكون عنوان المرحلة المقبلة من صراع القوى في القوقاز، وما يتمّ التحضير له لتطويق إيران من الشمال الآذربيجاني والغرب التركي. وقد تحدّث علييف، في المؤتمر الصحافي مع إردوغان في نخجوان، عن أن “منطقة زنغيزور الغربية، حيث يفترض أن يمرّ الممرّ، هي في الأصل أرض آذربيجانية فصلها الاتحاد السوفياتي عن آذربيجان عام 1920، وألحقها بأرمينيا”.

أمّا روسيا، البلد الأقوى في القوقاز منذ قرون، فلا يُعرف بعد كيف ستردّ على “الخيانة” الباشينيانية لها. ولأنها تفقد المزيد من الأوراق في المنطقة، فلعلّها ستحاول أولاً الاحتفاظ بدورٍ لقوات حفظ السلام التابعة لها في القوقاز بذريعة أو بأخرى، وربّما إذا ساعدت الظروف، ستحاول الإبقاء على بعض الوجود الأرميني في قره باغ لتبرير بقائها هناك ومنْح المقاطعة وضعاً خاصّاً. لكن الحديث عن تكشّف محاولة للانقلاب على باشينيان، واعتقال المتورّطين فيها، قد يجعل المراقبين يربطون بين هذه المحاولة وسعي روسيا إلى خلع رئيس الوزراء الأرميني، حيث إن الطريق الأقصر وليس الأسهل لروسيا للتخلّص من الرجل قد يكون من خلال إحداث اضطرابات في داخل أرمينيا وتحويل السهام نحوه وتحميله كامل المسؤولية عمّا جرى، لدفعه إلى الاستقالة أو اغتياله وعدم ترْك الوضع في أرمينيا يستتبّ لباشينيان، وعرابته الأميركية.

يبقى أمر أخير، وهو موقف الشتات الأرميني ممّا يجري في قره باغ وفي أرمينيا. فمع أن هذا الشتات يقيم علاقات جيّدة مع الولايات المتحدة والغرب، باعتبار أنها مراكز نفوذه، غير أن ما يجري من إنهاء للقضيّة الأرمينية في قره باغ وفي القوقاز لن يكون مصدر ارتياح له، وهو في ذلك يعارض سياسات باشينيان لأنه يدرك أن الغرب يبيع الأرمن سمكاً في البحر. وهذا الشتات يتخوّف أيضاً من استمرار مسلسل التنازلات الباشينيانية في ما يتعلّق بتحسين العلاقات مع تركيا وتوقيع اتفاق لتطبيع العلاقات معها يفرّط باللاءات الأرمينية التاريخية الثلاث: الاعتراف بالإبادة، التعويض المالي وإعادة الأراضي (في أرمينيا الغربية أو شرق الأناضول). لذلك، لا يُعرف ما إذا كان هذا الشتات سيلجأ إلى خطوات ضاغطة على باشينيان ويرسم خريطة طريق جدّية للقضيّة الأرمينية، أو أنه سيرضخ بدوره للضغوط الأميركية والفرنسية.

 

من ملف : أرمن قره باغ بلا موطن

al-akhbar.com

Share This