أرتساخ و”لعنة التاريخ”: القوّة تُسيِّر مصائر الشعوب!

25 أيلول 2023
جوزيف حبيب

 

لم يكن مفاجئاً للمراقبين تحقيق أذربيجان انتصاراً عسكريّاً خاطفاً بعد انقضاضها المباغت الأسبوع الماضي على «جمهورية» أرتساخ (ناغورني قره باغ)، المُعلنة ذاتيّاً بعد سقوط الاتحاد السوفياتي. فبعد الهزيمة المؤلمة لأرمينيا في حرب خريف عام 2020 التي سمحت لباكو بتطويق أرتساخ عسكريّاً، قبل فرض حصار مُحكم عليها منذ نهاية العام الماضي بإقفال ممرّ لاتشين، توسّعت الهوّة في موازين القوى وأصبحت المعطيات الميدانية تُشير إلى أن موعد سقوط جبال أرتساخ في يد الأذريين ليس إلّا مسألة وقت فقط، خصوصاً مع تدهور العلاقات بين موسكو ويريفان، واستفادة النظام المستبدّ في باكو من شبكة تحالفات مصلحيّة متشعّبة، تبدأ بتركيا ولا تنتهي بإسرائيل.

لم تُختم صفحات «الجلجلة الأرمنية» بـ»الإبادة الجماعية» على يد «السلطنة العثمانية»، ولم يتحرّر أرمن أرتساخ الساعون إلى الحفاظ على وجودهم الحرّ والعيش بكرامة، من «لعنة» الديكتاتور السوفياتي الراحل جوزيف ستالين الذي ألحق أرتساخ بأذربيجان في عشرينات القرن الماضي، وذلك قبل قيادته الاتحاد السوفياتي.

صحيح أنّ حرب بداية التسعينات سمحت للأرمينيين بالسيطرة على أرتساخ والمناطق المحيطة بها، بيد أن الوقت كان عدوّهم اللدود وصبّ لصالح أذربيجان التي استثمرت عائدات نفطها وغازها لبناء جيشها وتسليحه وتجهيزه، بينما لم تُحدّث «أرمينيا الفقيرة» قوّاتها المسلّحة فدفعت الثمن مضاعفاً عام 2020 مع غياب «راع» إقليمي قوي إلى جانبها، ووقفت عاجزة عن مدّ يد العون لأرتساخ أخيراً تفادياً لدفع فاتورة دم باهظة بلا طائل، وفق حساباتها.

تُعلّمنا تجربة شعب أرتساخ الذي يُهجّر من أرض أسلافه ويلجأ إلى أرمينيا خوفاً من حصول مذابح، دروساً تاريخية بالغة الأهمية. تبقى العبرة الأكثر دلالة من تلك الدروس المستقاة أن القوّة هي «الحكم الأخير» في علاقات المجموعات المتمايزة حضاريّاً بعضها عن بعض. القوّة بمختلف أشكالها وأنواعها وألوانها. القوّة الذاتية الديموغرافية والعسكرية والأمنية والمالية والصناعية والتكنولوجية… وقوّة التحالفات الخارجية وعمقها ومتانتها.

ولا يُمكن إغفال أن القوّة ليست مستدامة إلى ما لا نهاية، ما لم تحرص الشعوب الواقفة فوق «فوالق» دينية وإتنية ولغوية وعقائدية وجيوستراتيجية على تعزيز قوّتها عبر الأجيال والبقاء على أهبّة الاستعداد لمواجهة الزلازل المدمّرة والأعاصير الخطرة ومواكبة التحوّلات المتسارعة.

وفي وقت «تبتلع» فيه أذربيجان أرتساخ المعترف بها دوليّاً ضمن سيادتها، تبرز مخاوف جدّية من أن تطفو أطماع أذربيجان بأراض أرمينية إلى السطح، خصوصاً أن لباكو طموحات توسعية لإقامة اتصال برّي بينها وبين «جمهورية» ناخيتشيفان (نخجوان) التابعة لها و»العالقة» جغرافيّاً بين أرمينيا وإيران.

وفي حال قرّرت أذربيجان «المغامرة» وشنّت عدواناً عسكريّاً لاحتلال أراض في جنوب أرمينيا مستقبلاً، فإنّ ذلك سيُشعل منطقة جنوب القوقاز برمّتها، حيث قد تدخل إيران وتركيا وروسيا مباشرة على خطّ الصراع. وعلى أرمينيا المُحاطة بأذربيجان وتركيا وجورجيا وإيران، أن تحضّر ذاتها عسكريّاً وسياسيّاً وديبلوماسيّاً لاحتمال حصول عدوان على أراضيها المعترف بها دوليّاً.

النظام الدولي يتشكّل من جديد، ما ينعكس تغييرات جوهرية تطال «البنى الأمنية» الإقليمية حول العالم. لا يُمكن للشعوب الطامحة لتقرير مصيرها وإعلان استقلالها عن طغيان كيانات شمولية قمعية، أن تُراهن فقط على القانون الدولي. الرهان المنطقي يتجسّد أوّلاً ببناء قوّة ذاتية قادرة على التحرّر من الاستبداد أو التصدّي للغزوات، فضلاً عن تشكيل تحالفات إقليمية ودولية فاعلة تُساعد في تحقيق الأهداف المرسومة وفرض أمر واقع على الأرض ورسم خطوط حمر «وجودية».

ليست جميع الشعوب بوضعيات جيوسياسية متشابهة على الإطلاق، فقد تُكافأ شعوب بنِعَم «تقاطعات خارجية ايجابية» أو «ضمانة» قوّة عظمى عمادها المصالح الحيوية المشتركة، للحصول على حق تقرير المصير وتحصينه، في حين تُهزم قضايا تحرريّة أخرى بسبب خطايا مميتة و/أو بضربات طاحنة تكسر ظهر شعوب مناضلة بحكم موقعها الجغرافي ومحيطها الديموغرافي وغيرها من العوامل، على الرغم من مسيرتها المعمّدة بالدماء والمشبّعة بالمقاومة. في النهاية، ومنذ فجر التاريخ، تبقى الكلمة الفصل للقوّة، والشعوب معها إمّا تنتصر وتتحرّر وإمّا تُهزم وتتشتّت.

nidaalwatan.com

 

Share This