لأرمن و..لعنة التهجير الإبادة

غسان الشامي

قيّض لي قبل أربع سنوات زيارة ناغورنو – كرباخ ، وكانت جمهورية مستقلة تحتفل في مثل هذه الأيام بعيد الحصاد.

كان الجمال يحيط بنا، بينما كان المؤتمر الذي نحضره يغصّ بكلمات التضامن مع أرتساخ، فيما ستيباناكيرت العاصمة تلبس قمصان الفاكهة والخضار والخمر والعسل.

طبعاً ، لم ينتصر شعب -عبر التاريخ-بمدافع كلمات التضامن، لكن ما رأيته من عزيمة مقاتليها القدامى والجدد أعطاني صورة على أن ممر لاشين المزركش بالتوت البري سيبقى مثل النهر على جانبه، شرياناً يصلها بأرمينيا الأم.

الصور أيضاً معرّضة للتمزق وهذا ما حدث بعد أقل من عام ، عندما كرَّ تتار حيدر علييف على فلاحي هذه المنطقة فقتلوا من قتلوا وهجّروا من هجّروا ودخل الدب الروسي ليوقف حريقاً قوقازياً جديداً، ويحرس بيت الدعارة التركي.

كتبت وقتها ” لكم الله والبندقية ” يا أرمن أرتساخ، ويبدو أن الرب مشغول بمكان آخر من هذا العالم البهيمي ، والبندقية باعها رئيس وزراء أرمينيا باشايان بثلاثين من الفضة، وأضفت إن ما حصل في ناغورنو – كرباخ نسخة مكررة ودامية وموجعة وغبية لما يحصل للشعوب المسالمة والضعيفة التي قّدر لجغرافيتها وديموغرافيتها أن تحاط بالذئاب وجلادي الحضارات.

لقد ساهم ضعف الأرمن وتشلّعهم بين أيدي المصالح الدولية في لَيّ أذرعهم وتخليتهم وقتها شوشي وديكراناكيرت ، حيث رمزهم الشهير ديكران،..وقد كان هذا تبشيراً بأن تطهيراً وتهجيراً عرقياً سيحدث في أي لحظة.

لا يمكن لوم الأعداء دائماً ، فأحياناً تقدّم الشعوب قادة من طراز باشينيان، يكشفون عن أقفيتهم ويستسلمون لأعدائهم ، والأنكى أن 53% من الأرمن يعيدون انتخابه، وكأنهم لم يزوروا متحف الإبادة المطل على يريڤان أو بطولات أجدادهم، وكأن التاريخ قد طحنهم وجعل منهم عجينة لا تصلح لخبز الفقراء.

تصوروا أن رئيس وزراء بلد قدّم شهداء على مرّ التاريخ ينكر جذوره وقديسيه وملوكه يقول إن بلاده “ستعترف بناغورنو كاراباخ على أنها أذربيجانية”،..ماذا يتبقى لعشرات الآلاف من أرمن أرتساخ إذاً سوى ركوب السيارات تحت الحماية الروسية ومغادرة بيوتهم ومواقدهم وأشجارهم ومخداتهم والرحيل مجدداً ؟!، إما بسبب عدم احتمال الذل أو خوفاً على رؤوسهم من الضبع الأذري العلييفي ومعلّمه أردوغان.

المشكلة لها وجه آخر، وهو أن شعباً عريقاً كالأرمن انتخب لغماً وفخّاً كي يحكمه. لغم يحاول الرقص بين الكبار، أي روسيا وأمريكا، وأن يبيع ويشتري في الأرض والأرواح.

لم تعد صوَر الأرمن الذين يغادرون أرتساخ بالآلاف تستدعي تضامناً عالمياً، فالدول تتضامن مع الأقوياء ، وحيدر علييف وزوجته وحاشيته يلعبون تحت عباءة أمريكا وتركيا وإسرائيل وبين أفخاذها ، ولم يعد الخوف على أرتساخ التي ستفرغ من أهلها، بل على أرمينيا نفسها مستقبلاً، وهي تتمايل في هذه الحلبة من الرقص مع الذئاب الدولية.

يبقى لي شخصياً أنني زرت واحدة من أجمل بقاع الكون، تناولت طعامها وشربت خمرها وتذوقت فاكهتها وعسلها البري، وعرفت فلاحيها في عيد حصادها، قبل أن يودعها هذا العالم الذي لا يلتفت إلى أحلام الطيبين أو مواقدهم ، بل يعتبرهم حطب هذه المواقد.

إنه فصلٌ من ألم ولعنة الإبادات التي طالت الأرمن.

إنها تغريبة وجع جديدة.

ملاحظة: وقع رئيس جمهورية آرتساخ اليوم مرسوماً بتصفية جميع مؤسسات الدولة والمنظمات التابعة للمقاطعات “بما يعني أن آرتساخ يعد لها وجود، فيما وصل حتى صباح اليوم أكثر من 65 ألف نازح منها إلى جمهورية أرمينيا.

مجدل ترشيش ٢٨/أيلول ٢٠٢٣

Share This