كليوباترا، ملكة مصر. الحقيقة المغيّبة في ظلّ حرب العصبيّات والقوة الناعمة

بدأت شركة “نتفليكس” الأمريكيّة في العاشر من شهر أيّار (مايو) من السنة الجارية (1) ألفان وثلاثة وعشرون ببثّ مسلسلٍ وثائقي عن كليوباترا، ملكة مصر. حرّك هذا المسلسل اهتمام المشاهدين تجاه ملكة مصر في شتّى أصقاع الأرض. ولكن سبق الجدال والغضب والشجب في مواقع التواصل الاجتماعي هذا الاهتمام، وخاصّة شكوى المصريّين الذين عدّوا أنفسهم وملكتهم العظيمة مظلومين.

لم يكن هذا أوّل مسلسلٍ أو “فلمٍ” يُعرض عن كليوباترا، ولم تكن هذه المرّة الأولى التي يجسّد فيها ممثّلٌ (في هذه الحالة ممثّلة) شخصيّةً تاريخيّة تنتمي إلى جماعةٍ عرقيّة غير بنو قومه.

ولكن أشعل هذا المسلسل آنف الذكر (وهو من نوع الدراما الوثائقيّة)، نقاشاتٍ حامية ودفع الناس لأن ترفع أصواتها مستنكرةً إيّاه، خاصّة المصريّون الذين يرون أنه من الظلم أن يُنْسَب نتاج جهود أسلافهم وثمار حضارتهم التي امتدّت عبر آلاف السنين إلى الآخرين.

فيدّعي البعض بأنّ أجدادهم هم بنوا الأهرام وليس المصريّون القدامى، ويقول آخرون بأنّ من بنى المعابد المصريّة التي تفوق الأهرام من وجهة نظر الهندسة المعماريّة (معبد رمسيس الثاني المعروف بأبو سمبل أو معبد الأقصر مثلًا) هم الأفارقة الجنوبيّون أو الغربيّون. ويُماجِنُ البعض وهم يوجّهون كلامهم للمصريّين، قائلين: “هل تريدون بعض الماء؟”. مشيرين إلى نهر النيل الذي تقع منابعه في بلادهم والذي هبّت المشاكل حوله مؤخرًا.

لا أتعجّب عندما ينسب الجميع إرث مصر التاريخيّ والثقافيّ لأنفسهم، فهذه ظاهرة ليست بجديدة! أعطي القارئ المحترم مثالاً فيما يلي. كنت أشاهد مؤخّراً “فيلماً وثائقيّاً” عن آثار “جبل نمروت”، تمّ فيه تقديم آثار أسلافنا الأرمن على أنّها من نتاج حضارة أسلاف الأتراك! وأمّا في التعليقات كنتُ أقرأ كلام الأكراد (الذين استوطنوا أراضينا بعد أن “أزاحونا” عنّها، يدهم بيد الأتراك) وهم يوجّهون كلامهم للمزوّرين (مُنْتجي “الفيلم الوثائقيّ”): “كيف تسمحون لأنفسكم أن تقدّموا إرثنا على أنّها من آثار أجدادكم؟!”.

أتساءل هنا عن موقعنا نحن في هذه “المعادلة”، أقلّه على المستوى الثقافي (بعد أن تمّ تَغْيْيبنا عن أراضي آبائنا).

***

أنا أستثني أن يكون الدافع خلف موقف المصريّين هو التعصّب، فالمصريوّن لا يعانون من “رهاب الأجانب” أولًا، وهم لا ينتمون لإثنيّة واحدةً فقط ثانياً. حديثنا هنا ليس عن الحاضر فقط، بل على مرّ التاريخ، عاش أبناء الشعوب المختلفة في ربوع مصر. نحن نعلم كيف استُقْبِلَ أجدادنا أيّام الإبادة الجماعيّة و”مجزرة الأرمن الكبرى”، وكيف عاش الأرمنيّ في مصر كأنّها مسقط رأسه، إلى جانب أبناء النيل. وشهدنا كلّنا كيف استُقْبِلَ السوريّون مؤخّراً واستقرّوا فيها، ليس تحت الخيم كما كان حال أخوتهم في البلدان الأخرى التي لجأوا إليها، بل عاشوا مع المصريّين كأنّهم مصريّون وذاع صيتهم بأخلاقهم الحميدة و إحسانهم في العمل. أنا لم أذكر الإيطاليوّن واليونانيّون والأتراك والشركز والسودانيّون (أبناء النيل أيضًا) والنوبيّون (أبناء مصر الأصليّون ذوو البَشَرَة السمراء(2)) والألبانيّون والأرمن وغيرهم من أبناء الإثنيّات المختلفة، الذين عاشوا على أرض مصر وازدهروا فيها. أخصُّ بالذكر ثلاث شخصيّات (من أبناء الشعوب الثلاثة الأخيرة آنفة الذكر) وَصَلَت إلى حكم مصر։ محمد علي القوللي، أنور السادات ونوبار نوباريان. لم يكن الانتماء العرقيّ لأيّ منهم موضع إشكالٍ عند الشعب المصريّ.

لا يسعني المجال أن أتحدّث عن أبناء الأعراق المختلفة الذين ساهموا بالكثير أو بالقليل في مختلف مجالات الحياة المصريّة. هم كانوا دائمًا، مهما كانت إثنيّتهم أبناء الشعب المصريّ.

***

تعريف المركزيّة الأفريقيّة

المركزية الأفريقية (الأفرو-سنتريزم) هي نظرية واتّجاه أكاديمي وفكري، وهي حركة اجتماعية وثقافية تركّز بشكل كبير على الأفارقة وأحفادهم (أكان في أفريقيا أو في دول الشتات) وتراثهم، وتسعى إلى إعادة كتابة (برأي أصحاب هذا الفكر: تصحيح) تاريخ العالم من وجهة نظرٍ أفريقيّةِ المركز، مُتَحَدّيةً المركزيّة الأوروبيّة المهيمنة والطاغية في كلّ أصقاع الأرض. تسعى المركزيّة الأفريقيّة إلى إعادة بناء تاريخ العالم (أو تدوين التاريخ) والتصورات العامّة. لا تثير هذه الحركة أيّ إشكال على المستوى الأكاديمي، فعلى سبيل المثال طرحَ كتاب “أثينا السوداء” وهو بمثابة الإنجيل لهذه الحركة أفكارا ذات محورٍ أفريقيّ وجهات نظر داعمة للمركزية الأفريقية، وتلقى الدحاض والردود المناسبة.

من هي كليوباترا الحقيقيّة؟

كانت كليوباترا السابعة آخر ملكات البطالمة (المنحدرين من اليونان) الذين حكموا مصر. ولدت سنة 68 ق.م. بالعاصمة الإسكندرية جوهرة الدنيا في ذلك الوقت. اعتلت العرش وعمرها 18عامًا وحكمت مع أخيها الأصغر بطليموس الثالث عشر، إلى أن بدأت الصراعات بينهما.

اشتهرت كليوباترا بحكمتها وذكائها وفطنتها. كانت تتحدّث عدة لغات منها المصرية واليونانية واللاتينية. كانت راعية ونصيرة الفنون والعلوم. كانت تتواصل بنشاط مع علماء ومثقفي عصرها. كانت مهتمّةً بالمنطق والفلسفة والأدب وعلم الفلك. ساهمت عبقرية كليوباترا وشخصيتها الأخّاذة في نجاحها في السياسة، فضلاً عن قدرتها على “الملاحة” عبر ديناميكيات الإمبراطورية الرومانية المعقدة.

صوت الحكمة – يوسف زيدان

مهما كان رأي العوام جديراً بالاحترام، ينبغي علينا ننصت لصوت الحكمة، وعلينا أن نلجأ لميزان المنطق في كلّ مسألة. سنجد في مواقع التواصل الاجتماعيّ آراءاً مختلفة ومتضاربة عن كليوباترا، من كلا الطرفين. لكنّي ارتأيتُ في هذه المقالة أن أنقل للقارئ المحترم رأي (تمّت الصياغة بكلمات كاتب المقالة) فيلسوفٍ (محبّ للحكمة) ألمعيّ، ليس فقط لإلمامه بهذه المسألة، بل لكونها تعنيه كمصريّ سكندريّ.

بعد أن لفت العلّامة والكاتب الروائيّ والفيلسوف والأستاذ الجامعيّ والمدير السابق لمركز المخطوطات في مكتبة الإسكندرية انتباه قرّائه ومتابعيه (خلال إحدى محاضراته) إلى جمال الملامح الزنجيّة (2)، وإلى ذكاء وسرعة وتفوّق “الإنسان الأفريقيّ” الذي أدّى إلى انقراض “إنسان نياندرتال” الذي كان يعيش في أفريقيا وحلّ محلّه، قال: “مسلسل كليوباترا هو أحد وجوه تهريج نتفلكس.. قال زيدان: “أليس الأجدر الوقوف عند المآسي التي تعرّض لها الأفارقة عبر التاريخ؟ لماذا لا تقوم نتفليكس بإنتاج مسلسلاً عن إمبراطور النمسا الحقير ليوبولد الثاني، الذي كان استعبد آلاف الأفارقة وتقطّعت أياديهم وهم يعملون مُجْبَريْن وسخرةً لكي يستغلّ مناجمهم ويستحوذ على ثرواتهم الطبيعيّة”.

“لماذا لا يتمّ إنتاج عمل وثائقي-دراميّ عن المآسي والأهوال التي يتعرّض لها الأفارقة الزنوج؟”، أذكرُ (كاتب هذه المقالة) منها: انتهاكات حقوق الإنسان، الفقر المدقع، غياب العدالة الاجتماعيّة، الإجرام والإرهاب، الحروب، الفساد، استغلال وسرقة الأجانب (بعض الأوروبّيون بالتحديد) لثرواتهم الطبيعيّة، والأكثر إدماءاً للقلوب غرق زوارق النجاة / الموت في البحر المتوسّط في طريقها إلى أوروبّا.

ويتابع زيدان بعد حديثه عن “المركزيّة الإفريقية” الحركة الأكاديميّة والفكرية ,كتاب “أثينا السوداء” كطرح نظري وتاريخي، وبعد إشارته لما دار حوله من نقاش في مصر في القرن العشرين قائلاً : “هذه ليست المرة الأولى التي نواجه فيها تهريج “نتفليكس”، فقد أنتجت مؤخرًا مسلسلًا تلفزيونيا آخر، أدّى فيه دور الإله اليوناني زيوس ممثلاَ أسوداً (2). كانت كليوباترا يونانيّة ومهما تقارب البطالمة من المصريين، فقد كانوا دائمًا مقدونيين يونانيّين. لا علاقة لهذه المسلسلات بـ”المكزيّة الأفريقيّة”، وهي ليست الأولى من نوعها، فقد قامت نتفليكس سابقاً بإنتاج مسلسلاً عن الرومان، تم تقديم كليوباترا فيه على أنها امرأة خليعة وشهوانية. بينما كانت كليوباترا في الحقيقة ابنة إحدى السلالات الملكية المقدونية اليونانية الراقية، ويمكن رؤية وجهها (شكلها الحقيقيّ) بوضوح على العملات المعدنية المسكوكة في تلك الأوقات. وعلينا عند الحديث عنها أن نذكر رعايتها لمكتبة الإسكندرية، وفكرها السامي، ورشدها، وألا نصورها بشكل مسيء على أنها فاسقة سكّيرة. وحتى الفيلم الذي أذيع عنها عام 1963 ركّز على علاقاتها العاطفيّة يوليوس قيصر ومارك أنتوني. إن موقفنا هذا ليس انحيازاً ثقافياً أو حضاريّاً، بل هو ببساطة الواقع. ونحن هنا لا نقصد الاستخفاف بالأعراق السوداء أو بجمال النساء السود، لكن هذه الظاهرة مخالفة للتاريخ والمنطق والعقل”.

أفردَ زيدان في الفصل الأخير (الحكمة المؤنّثة) من كتابه “فقه الثورة” صفحاتٍ بديعاتٍ باهراتٍ مبينات مُشْبَعاتٍ بالمعاني لكليوباترا. آمل أن أنجح يومًا في إنزالها من منزلتها الرفيعة في أعلى مذبح (المحراب، الهيكل) الواقع في كهف اللغة العربيّة، وأترجمها للّغة الأرمنيّة.

تعريف القوّة الناعمة

القوة الناعمة هي قدرة دولة ما (أو أي طرف) على التأثير على الآخرين من خلال وسائل غير قسرية وغير عنفيّة، مثل الثقافة والقيم والأفكار، عوضاً عن استخدام القوة العسكرية أو الاقتصادية. وهي تشمل تشكيل خيارات وسلوك الآخرين (المُسْتَهْدفين) لخدمة مصالح الدولة (أو الجهة) المُسْتَهْدِفة وغاياتها.

المسلسلات …إحدى أدوات تحقيق القوة الناعمة

تلعب المسلسلات التلفزيونية (بمعناها الحديث والأوسع) دوراً كبيراً في تنفيذ القوة الناعمة، فهي إحدى وسائل التبادل الثقافي.

توفر المسلسلات التلفزيونية لمنتجيها منصةً لنشر القيم والأفكار وأساليب الحياة التي يبتغونها، مما يساعد على توسيع قوتهم الناعمة على المستوى العالمي.

لن يكون لهذا المقطع عنوان، أرجو أن تُقْرأ خاتمة المقالة على أنّها عنوانها.

لدراسة التاريخ والماضي أهميّة بالغة، كما أنّه لشرح المصطلحات وتوضيح المفاهيم في منتهى الأهميّة، لكن لا ينبغي أن تصرف انتباهنا عن حاضرنا وواقعنا. ومهما كان الماضي والحاضر مهمين، لا يجب أن يصرفا انتباهنا عن المستقبل! فليكن المستقبل في نصب أعيننا.

وليكن ما يلي عوضاً عن المقدّمة:

لنتذكّر دائماً أنّ أعتى أعدائنا هو من أمهر من وظّف القوّة الناعمة…

(نهاية المقالة الأصليّة)

***

أهدي فيما يلي للقارئ العربيّ حصراً (لم ترد في نص المقالة الأصليّ) أبياتاً من أشعار العارِف الهنديّ بُلِّه شاہ (3) مترجمةً من اللغة البنجابيّة.

 

“قيل للعاشق المجنون
ليلاك سوداء اللون
فردّ المجنون قائلاً
عيونكم ليست أهلاً
لأن ترى جمالها
لو رأيتم ليلاي بعيناي
لما أدركتم حُسْنها

***

صحائف الفيدا (4) والقرآن البيضاء
معانيها الحقيقيّة في حبرها الأسود
أيا بُهليا* لا تٌشْغل بالك بالهراء
حين ينشد فؤادك ما يود
لا يسأل عن الأبيض والأسود”

1- سنة نشر المقالة الأصليّة.
2- وجب التنبيه إلى أنّ أي مصطلحٍ أو تعبيرٍ استُخْدِمَ في المقالة لا يحمل في طيّاته أي تمييزٍ أو أيّة إهانة، ولا إعلاءاً لأفسنا ولا استعلاءاً على الآخر. غايتنا هنا خدمة العقل والفكر فقط!
3- بُلِّه شاہ: صوفيّ هنديّ من القرن السابع عشر
4- من كتب الهندوس المقدّسة

 

واهان مانجيكيان

Share This