حيث سقطت الإنسانية

كريس تشوبوريان

هزّت الحرب في غزّة، التي اندلعت في ٧ تشرين الأوّل ٢٠٢٣، جزء كبير من الرأي العام العالمي، الذي بدأ يتساءل عن دور قانون حقوق الإنسان الذي لا يُطبّق والقانون الدولي الإنساني الذي دُهس تحت أقدام جنود المثلث الإجرامي… حتّى اعتبر البعض أنّ الأمم المتّحدة قد سقطت فعليًا.

لكنّهم نسوا أنّ الإنسانية قد سبقت الأمم فسقطت منذ زمنٍ طويلٍ، وبالتحديد في ٢٤ نيسان ١٩١٥.

في هذا التاريخ، قُتل أكثر من مليون ونصف أرمني أمام أعين العالم الذي لم يتحرّك أبدًا، لأنّ أمام المصالح لا تسقط الإنسانية وحسب بل تصبح الشعوب أحجار شطرنج في يد حكّامها، يستخدمونهم عند الحاجة لإدارة اللعبة ولتهديد الخصم ويتخلّون عنهم لاحقًا لحرقهم في لعبة المفاوضات.

وكأنّه لم يتغيّر شيئًا منذ مئة وتسع سنوات… فاليوم حاكمٌ على شعبي دميةٌ في يد حكّام العالم، استخدم الشعب في لعبة الثورة فربح الجولة ووصل إلى السلطة قبل أن يبدأ تنفيذ خطّة أسياده فباع أراضي آرتساخ وهجّر سكّانها وأبكى أولادها وبدأ بيع أراضي أرمينيا في مزاد المفاوضات في المنطقة.

مهلاً… صحيح أنّ العالم أبقى ساكةً أمام مجزرة العصر عام ١٩١٥ لكن أتى، بعد سنوات، مَن يحاكم هؤلاء المجرمين وذكّروا العالم أنّ الكلّ يدخل في نهاية المطاف التاريخ، البعض بين أسماء المجرمين الذين دمّروا العالم ورووا الأرض بدماء الأبرياء، وغيرهم بين أسماء الأبطال الذين دافعوا بشجاعة عن القضية والبعض الآخر بين أسماء الذين ماتوا خجلاً بأنّهم لم يفعلوا شيئًا.

سيأتي يوم أيضًا وسيُحاسب مجرمي اليوم وخونة القضية، وسيخجل مرّة جديدة العالم أنّه أبقى ساكةً أمام جريمة جديدة… هذا التاريخ، يعيد نفسه أمام أجيالٍ جديدة لا يقرأون, حتّى ليملّوا عن نفس المشاهد وليقرّروا أخيرًا عدم تكرار نفس الأخطاء.

ربّما لم يكن هناك آنذاك مواقع تواصل إجتماعي لتناقل الأخبار والصور بهذه السرعة لكن الأكيد أنّ لهؤلاء الشهداء ورثة، حملوا قضيّتهم أكثر من مئة وتسع سنوات.

صحيح أنّ الهزائم المتتالية والشعور بالشلل وعدم القدرة في تغيير الواقع الأليم، يدفع الشعوب وخاصة الجيل الجديد إلى الإستسلام… لكن كلّما تراودني الفكرة، ترافقها في ذهني أصوات أجدادي التي لم أسمعها إلاّ في قصصهم.

كيف أستسلم وبين أجدادي، مَن رُمي في بئر الماء بين الجثث وصمد أيّام طويلة، ومَن اختبأ في صندوقٍ صغيرٍ فنجا، ومَن مشى الصحراء ليصل أخيرًا إلى لبنان فيسلّمني الشعلة بعد أجيالٍ من النضال… فهل يجوز لي أن أطفئ الشعلة؟

نعم، سقطت الإنسانية منذ تلك الإبادة الجماعية، فماذا ننتظر اليوم، في قضية آرتساخ وقضية غزّة، مِن دولٍ لم يعترفوا حتّى يومنا هذا بالإبادة الأرمنية؟ وماذا ننتظر من الدول التي اعترفت بالإبادة الأرمنية لرفع العتب دون محاسبة فعلية؟

لا يكفيني بعد اليوم أن تعترف الدول بالإبادة الجماعية التي حصلت عام ١٩١٥ وأن يتذكّر العالم الأرمن في الرابع والعشرين من كل عام من جهة، وأن يستمرّ المثلث الإجرامي التركي-الأذري-الإسرائيلي بجرائمه حول العالم دون حسيب ولارقيب من جهة أخرى.

لا تتذكروا الأرمن لمصالحكم أيضًا كل سنة، فيكفينا أن نضيء لشهداءنا الأبرياء شموعًا وأن نناضل، ولو وحدنا، لمحاسبة هؤلاء وتجنّب جرائم جديدة بحق الشعوب وبحق الإنسانية.

لقد سقطت الأقنعة ولم يبقى في هذا العالم غير مصالحهم التافهة وجرائمهم الدامية.

ماذا نتوقّع بعد، في عالمٍ، حيث سقطت الإنسانية منذ مئة وتسع سنوات…

 

Share This