شعب من القصص: التاريخ لا يكتبه المنتصرون فحسب

سعد سلوم

سعد سلوم

“أيها الشعب الأرمني، خلاصكم الوحيد هو في قوتكم الجماعية”. وردت هذا العبارة في قصيدة بعنوان “رسالة” كتبها الشاعر الأرمني يغيشه تشارينتش في عام 1933. وسرعان ما اختفى الشاعر في عمليات التطهير الستالينية، لكن رسالته التي تطالب بالوحدة أصبحت صرخة حاشدة للأرمن المنتشرين في جميع أنحاء العالم.

ظلت الإبادة الجماعية للأرمن عام 1915 بمثابة الذاكرة المرجعية التي جمعت الأرمن المشتتين في انحاء العالم وجعلتهم يتصرفون كقوة موحدة. وجعل المسألة الأرمنية تأبى ان تختفي من صفحات التاريخ، مثل قضايا الجماعات والأقليات والشعوب الأصلية التي تسعى للعدالة، فهي ما تزال حية ومتوهجة في كل حين. كان جميع من التقيت بهم من المثقفين الأرمن يحملون هذا التاريخ داخلهم، ويندر أن تجد شعبا متوهجا بقصص عمرها أكثر من مائة عام مثل الشعب الأرمني.

لكن كيف يمكن جمع هذه القصص قبل أن تذوب أو تختفي؟. كانت هذه مهمة الفولكلورية الأرمنية العظيمة (فيرجين سفازليان) التي التقيتها في العاصمة يريفان عام 2015. كرست هذه الباحثة الرئيسية في معهد الآثار والإثنوغرافيا في أكاديمية العلوم في أرمينيا، حياتها لتدوين التقليد الشفهي للناجين من الإبادة الجماعية، من خلال شهادات شهود عيان وأغاني تكشف تجربتهم. وقامت بتدوين مختلف آثار التقليد الشفهي، والشهادات الوثائقية والأغاني التاريخية (باللغتين الأرمنية والتركية) لشهود العيان الناجين من الإبادة الجماعية. كان هولاء الناجون الذين تم ترحيلهم من أكثر من 100 موقع في أرمينيا التاريخية وقيليقيا والأناضول، قد استوطنوا في أرمينيا وفي الشتات. وبهذا العمل إنقذت الذاكرة التاريخية الجماعية للأمة الأرمنية من الخسارة الكاملة وقدمتها للعالم في لغات مختلفة (باللغة الأرمنية والروسية والإنكليزية والفرنسية والألمانية والتركية(.

ولدت (فيرجين سفازليان) في عام 1934 في الإسكندرية (مصر) في عائلة الكاتب الأرمني كارنيك سفازليان، الذي كان هو نفسه أحد شهود العيان الناجين من الإبادة الجماعية. ثم هاجرت مع عائلتها إلى أرمينيا السوفييتية عام 1947 مستفيدة من سياسة الحكومة السوفييتية التي شجعت الأرمن على العودة إلى الوطن. وبدأت (سفازليان) في جمع شهادات الإبادة الجماعية عندما كانت طالبًة في جامعة يريفان خاتشاتور أبوفيان التربوية، حيث كانت تمشي من باب إلى باب ومن قرية إلى قرية، بحثًا عن الناجين من الإبادة الذين تم إنقاذهم. وجمعت الروايات الشفهية للناجين من الإبادة ابتداءً من عام 1955 من 100 منطقة في أرمينيا الغربية. لقد قامت بهذه الجهود في غالب الأحيان بمخاطر شخصية كبيرة من السلطات الشيوعية في الاتحاد السوفيتي. وقد تحدثت لي عن الظروف المعقدة للقاءاتها مع الناجين. “عند مقابلتي لشهود العيان الناجين الذين تم إنقاذهم بأعجوبة من الإبادة الجماعية الأرمنية، كنت أجدهم دائمًا صامتين ومتحفظين وعميقين في التفكير. وكان هناك سبب وجيه لهذا الصمت الغامض، لأن العقبات السياسية السائدة في أرمينيا السوفيتية لعقود عديدة لم تسمح لهم التحدث عن ماضيهم أو سرده بطريقة حرة وغير مقيدة.”

يمكن تفهم ذلك في ضوء الصرامة التي اتسمت بها سياسة الاتحاد السوفييتي المبكرة في عهد ستالين، والتي جعلت المسألة الأرمنية من المحرمات. لكن الأمور سرعان ما تغيرت، وفي عام 1945 أعلنت الحكومة السوفيتية رسميًا مطالبتها بالأراضي الأرمنية التاريخية ومراجعة الحدود السوفيتية التركية. وسرعان ما أعقب هذا التحول الكامل في السياسة الخارجية تحول مماثل في السياسة الداخلية. تم إدراج الإبادة الجماعية في كتب التاريخ المدرسية، ومُنحت المنشورات الأكاديمية الإذن بمعالجة هذا الموضوع (شريطة ألا تشكك في الموقف الرسمي الأناني بشأن الدور الروسي في الأحداث)، الأمر الذي أتاح لها الانطلاق بمشروعها. أجرت المقابلات مكتوبة ومسموعة ومسجلة بالفيديو، بلهجات ولغات مختلفة. وشمل ما سجلته مجموعة واسعة من المواضيع: الوطن الأصلي، والحياة الأبوية والعادات، والحياة السياسية المجتمعية، والأحداث التاريخية، والممارسات التمييزية (أي الضرائب، والمحظورات الموجهة فقط ضد أرمينيا)، والمعاملة اللاإنسانية للنفي القسري، وجرائم القتل، التشويه، والمحرقة، وكلها ظلت حية في ذاكرة العديد من الناجين.

تكشف الشهادات أيضًا عن أشكال مختلفة من الفولكلور الشعبي (المراثي، والأغاني، والأمثال، والأمثال، والصلوات، والقسم، وما إلى ذلك)، والتي لا تقدم دراسة إثنوغرافية أكثر قيمة فحسب، بل تساعد أيضًا في تأكيد موثوقية روايات الناجين.

كان العنصر المشترك في المقابلات هو إحصاء الناجين لأفراد أسرهم الممتدة – كم عدد الذين قُتلوا، وكم منهم نجوا. قال نجاريان المولود عام 1910 في ملاطية: ذبحت عائلتنا الكبيرة المكونة من قرابة 150-200 شخصًا على طريق دير الزور. ولم يبق منا إلا ثلاثة: أنا وأمي وأخي.

سجلت (سفازليان) مقتطفات من أغاني الناجين عن الإبادة الجماعية والتي كان مؤلفوها في الأساس من النساء الأرمنيات. وعلى حد تعبيرها “كانت الأغاني تثير انطباعات مرعبة قوية وعميقة لدرجة أنها غالبًا ما اتخذت شكلًا شعريًا مثل الرثاء الذي نسجته الناجية من موش، شوغر تونويان (مواليد 1901)، والتي نقلتها لها بعيون دامعة وآهات:

“…أسمع صباحًا ومساءً صرخات وعويل،

لا راحة لي ولا راحة ولا نوم

أغمض عيني وأرى دائمًا الجثث،

لقد فقدت أقاربي وأصدقائي وأرضي وبيتي “.

ترى (سفازليان) أن هذه الأغاني التاريخية “بأصالتها ومحتوياتها الأيديولوجية، لا تمثل مستجدات في مجالات الفولكلور الأرمني ودراسات الإبادة الجماعية الأرمنية، ولكنها توفر أيضًا إمكانية فهم الفترة التاريخية المعطاة بطريقة جديدة مع جوانبها المحددة.” وقد قسمت (سفازليان) هذه الأغاني إلى فئات حسب الخبرة التي تنقلها: أغاني التعبئة والحماسة للقتال واغاني السجن، أغاني الترحيل والمذابح، أغاني الأمهات المحرومات من الأطفال واغاني الأيتام ودور الأيتام، أغاني المعارك البطولية، وأغاني الوطن الضائع والمطالبة بالحق.

في الثمانينيات استطاعت السفر الى تركيا لكي تواصل رحلة البحث عن ناجين توثق أغانيهم وهكذا استطاعت تسجيل الاغاني الارمنية عن الابادة باللغة التركية. وبما ان الارمن قد حرموا في تركيا من التحدث بلغتهم، فقد سجلوا قصص المحنة باللغة التركية، وعلى حد تعبيرها البليغ “من خلال المذكرات والأغاني حرسوا ذكرى الإبادة الجماعية بلغة العدو”.

روت لي قصة طريفة عن اضطرارها الى ابتكار طريقة للدخول الى دار للمسنات من الناجيات الأرمنيات والتي تقع في جوار مستشفى، فأدعت المرض ثم اجراء عملية لاستئصال الزائدة الدودية وتحملت الالم في سبيل ان تصبح قريبة من هدفها. وهكذا تسللت من المستشفى لكي تعبر الجدار لمقابلة الناجيات في دار المسنات وتسجل الأغاني التي حفظت ذكرى الإبادة باللغة التركية.

كان العديد من الناجين من مناطق مختلفة قد انشدوا الأغاني نفسها، مع اختلافات. ثم تناقلت الأغاني على نطاق واسع عن طريق الكلام الشفهي. وتم تأليف وغناء العديد من الأغاني باللغة التركية، خاصة في البلدات التي كان التحدث فيها بالأرمنية محظورًا. تشهد العديد من المقابلات التي أجرتها على قيام السلطات التركية بقطع ألسنة المتحدثين و/أو معلمي اللغة الأرمنية، وتضمنت إحدى الأغاني التي تم جمعها:

“دخلوا المدرسة وقبضوا على مديرة المدرسة، آه، يا للأسف!

لقد فتحوا فمها وقطعوا لسانها، آه، واحسرتاه!

قدمت (سفازليان) بعض الأمثلة من الأغاني باللغة التركية حول الإبادة الجماعية:

استيقظت في الصباح؛ كان الباب مغلقاً،

جاء الرائد وفي يده هراوة،

وانتشر أمامه العميان والأعرج،

أرمينيا تموت من أجل الإيمان!

وكان المكان المسمى دير الزور منطقة كبيرة،

مع عدد لا يحصى من الأرمينيين المذبوحين،

زعماء العثمانيون أصبحوا جزارين،

أرمينيا تموت من أجل الإيمان!

وكانت صحراء دير الزور مغطاة بالضباب،

اه يا أمي! اه يا أمي! كانت حالتنا يرثى لها

الناس والعشب ملطخون بالدم

أرمينيا تموت من أجل الإيمان!

بعد مرور أكثر من مائة عام على الإبادة الجماعية، ومع وجود عدد قليل جدًا من الناجين الذين يمكنهم رواية الحكاية، تظل الموسيقى والأغاني المتعلقة بالإبادة الجماعية الأرمنية خيطًا يمتد عبر التاريخ ويربط الجيل الحالي بماضيهم الوطني الجماعي. لا تسهل هذه الأغاني إعادة خلق الهويات فحسب، بل تعمل أيضًا على تحديد موقع المجتمعات الأرمنية وتفكيكها في أرمينيا وفي جميع أنحاء العالم. إن الإبادة الجماعية تجعل الأمر أكثر إلحاحاً بالنسبة للأرمن لإيجاد الوسائل اللازمة للتحقق من صحة تاريخهم. تذكر الأغاني الأجيال الجديدة من الأرمن بماضيهم وحاضرهم، وغالبًا ما يكون ذلك بهدف واضح هو إلهام جماهيرهم لخوض النضال من أجل الاعتراف بالإبادة الجماعية.

إن ثروة شهادات شهود العيان التي تراكمت لدى (سفازليان) على مر العقود كان من المفترض أن تستوعبها الأجيال القادمة، وذلك لمنحهم المعرفة بماضيهم ولمواجهة التحريفية التاريخية وإنكار الإبادة الجماعية. استخدمت شهادة ديكران أوهانيان، المولود عام 1902 في كاماخ، لتوضيح هدفها. إذ قال أوهانيان،”… ماضي ليس ماضيي فقط، ولكنه ماضي أمتي أيضًا.”


لجنة القضية الارمنية في العراق

 

Share This